الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الفصل الخامس

                                                                                                                                                                                                                                            في أن الصلاة معراج العارفين

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معراجان : أحدهما من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، والآخر من الأقصى إلى أعالي ملكوت الله تعالى ، فهذا ما يتعلق بالظاهر ، وأما ما يتعلق بعالم الأرواح فله معراجان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : من عالم الشهادة إلى عالم الغيب .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب ، وهما بمنزلة قاب قوسين متلاصقين ، فتخطاهما محمد عليه السلام وهو المراد من قوله تعالى : ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) [ النجم : 9 ] وقوله : " أو أدنى " إشارة إلى فنائه في نفسه ، أما الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فاعلم أن كل ما يتعلق بالجسم والجسمانيات فهو من عالم الشهادة ؛ لأنك تشاهد هذه الأشياء ببصرك ، فانتقال الروح من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح هو السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، وأما عالم الأرواح فعالم لا نهاية له ، وذلك لأن آخر مراتب الأرواح هو الأرواح البشرية ، ثم تترقى في معارج الكمالات ومصاعد السعادات حتى تصل إلى الأرواح المتعلقة بسماء الدنيا ثم تصير أعلى وهي أرواح السماء الثانية وهكذا حتى تصل إلى الأرواح الذين هم سكان درجات الكرسي ، وهي أيضا متفاوتة في الاستعلاء ، ثم تصير أعلى وهم الملائكة المشار إليهم بقوله تعالى : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش ) [ الزمر : 75 ] ثم تصير أعلى وأعظم وهم المشار إليهم بقوله تعالى : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) [ الحاقة : 17 ] وفي عدد الثمانية أسرار لا يجوز ذكرها ههنا ثم تترقى فتنتهي إلى الأرواح المقدسة عن التعلقات بالأجسام ، وهم الذين طعامهم ذكر الله ، وشرابهم محبة الله ، وأنسهم بالثناء على الله ، ولذتهم في خدمة الله ، وإليهم الإشارة بقوله : ( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ) وبقوله : ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) [ الأنبياء : 20 ] ثم لهم أيضا درجات متفاوتة ومراتب متباعدة ، والعقول البشرية قاصرة عن الإحاطة بأحوالها ، والوقوف على شرح صفاتها ، ولا يزال هذا الترقي والتصاعد حاصلا كما قال تعالى : ( وفوق كل ذي علم عليم ) [ يوسف : 76 ] إلى أن ينتهي الأمر إلى نور الأنوار ، ومسبب الأسباب ، ومبدأ الكل ، وينبوع الرحمة ، ومبدأ الخير ، وهو الله تعالى ، فثبت أن عالم الأرواح هو عالم الغيب ، وحضرة جلال الربوبية هي غيب الغيب ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " إن لله سبعين حجابا من النور لو كشفها [ ص: 222 ] لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك البصر " وتقدير عدد تلك الحجب بالسبعين مما لا يعرف إلا بنور النبوة .

                                                                                                                                                                                                                                            فقد ظهر بما ذكرنا أن المعراج على قسمين :

                                                                                                                                                                                                                                            أولهما : المعراج من عالم الشهادة إلى عالم الغيب .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : المعراج من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب ، وهذه كلمات برهانية يقينية حقيقية .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فلنرجع إلى المقصود فنقول : إن محمدا عليه السلام لما وصل إلى المعراج وأراد أن يرجع قال : يا رب العزة إن المسافر إذا أراد أن يعود إلى وطنه احتاج إلى محمولات يتحف بها أصحابه وأحبابه ، فقيل له : إن تحفة أمتك الصلاة ، وذلك لأنها جامعة بين المعراج الجسماني وبين المعراج الروحاني : أما الجسماني فبالأفعال ، وأما الروحاني فبالأذكار ، فإذا أردت أيها العبد الشروع في هذا المعراج فتطهر أولا ؛ لأن المقام مقام القدس ، فليكن ثوبك طاهرا ، وبدنك طاهرا ، لأنك بالوادي المقدس طوى ، وأيضا فعندك ملك وشيطان فانظر أيهما تصاحب ، ودين ودنيا فانظر أيهما تصاحب ، وعقل وهوى فانظر أيهما تصاحب ، وخير وشر ، وصدق وكذب ، وحق وباطل ، وحلم وطيش ، وقناعة وحرص ، وكذا القول في كل الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية ، فانظر أنك تصاحب أي الطرفين وتوافق أي الجانبين فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة ، ألا ترى أن الصديق اختار صحبة محمد عليه السلام فلزمه في الدنيا وفي القبر وفي القيامة وفي الجنة ، وأن كلبا صحب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا وفي الآخرة ، ولهذا السر قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) [ التوبة : 119 ] ثم إذا تطهرت فارفع يديك ، وذلك الرفع إشارة إلى توديع عالم الدنيا وعالم الآخرة فاقطع نظرك عنهما بالكلية ووجه قلبك وروحك وسرك وعقلك وفهمك وذكرك وفكرك إلى الله ، ثم قل : الله أكبر ، والمعنى أنه أكبر من كل الموجودات ، وأعلى وأعظم وأعز من كل المعلومات ، بل هو أكبر من أن يقاس إليه شيء أو يقال إنه أكبر ، ثم قل : سبحانك اللهم وبحمدك ، وفي هذا المقام تجلى لك نور سبحات الجلال ، ثم ترقيت من التسبيح إلى التحميد ثم قل : تبارك اسمك ، وفي هذا المقام انكشف لك نور الأزل والأبد ؛ لأن قوله تبارك إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام ، وذلك يتعلق بمطالعة حقيقة الأزل في العدم ، ومطالعة حقيقة الأبد في البقاء ، ثم قل : وتعالى جدك ، وهو إشارة إلى أنه أعلم وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور ، ثم قل : ولا إله غيرك ، وهو إشارة إلى أن كل صفات الجلال وسمات الكمال له لا لغيره ، فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو ، والمقدس الذي لا مقدس إلا هو ، وفي الحقيقة لا هو إلا هو ولا إله إلا هو ، والعقل ههنا ينقطع ، واللسان يعتقل ، والفهم يتبلد ، والخيال يتحير ، والعقل يصير كالزمن ، ثم عد إلى نفسك وحالك وقل : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ، فقولك : " سبحانك اللهم وبحمدك " معراج الملائكة المقربين ، وهو المذكور في قوله : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) [ البقرة : 30 ] وهو أيضا معراج محمد عليه السلام ؛ لأن معراجه مفتتح بقوله : " سبحانك اللهم وبحمدك " وأما قولك " وجهت وجهي " فهو معراجإبراهيم الخليل عليه السلام ، وقولك : " إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله " فهو معراج محمد الحبيب عليه السلام ، فإذا قرأت هذين الذكرين فقد جمعت بين معراج أكابر الملائكة المقربين وبين معراج عظماء الأنبياء والمرسلين ، ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ؛ لتدفع ضرر العجب من نفسك .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 223 ] واعلم أن للجنة ثمانية أبواب ، ففي هذا المقام انفتح لك باب من أبواب الجنة ، وهو باب المعرفة ، والباب الثاني هو باب الذكر وهو قولك : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، والباب الثالث باب الشكر ، وهو قولك : ( الحمد لله رب العالمين ) ، والباب الرابع الرجاء وهو قولك : ( الرحمن الرحيم ) ، والباب الخامس باب الخوف ، وهو قولك : ( مالك يوم الدين ) ، والباب السادس باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية ، وهو قولك : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، والباب السابع باب الدعاء والتضرع كما قال : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ) [ النمل : 62 ] وقال : ( ادعوني أستجب لكم ) [ غافر : 60 ] وهو ههنا قولك : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، والباب الثامن باب الاقتداء بالأرواح الطيبة الطاهرة والاهتداء بأنوارهم ، وهو قولك : ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) ، وبهذا الطريق إذا قرأت هذه السورة ووقفت على أسرارها انفتحت لك ثمانية أبواب الجنة ، وهو المراد من قوله تعالى : ( جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ) [ ص : 50 ] فجنات المعارف الربانية انفتحت أبوابها بهذه المقاليد الروحانية ، فهذا هو الإشارة إلى ما حصل في الصلاة من المعراج الروحاني .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما المعراج الجسماني فالمرتبة الأولى أن تقوم بين يدي الله مثل قيام أصحاب الكهف ، وهو قوله تعالى : ( إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض ) [ الكهف : 14 ] بل قم قيام أهل القيامة وهو قوله تعالى : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) [ المطففين : 6 ] ثم اقرأ سبحانك اللهم ، وبعده وجهت وجهي ، وبعده الفاتحة ، وبعدها ما تيسر لك من القرآن ، واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله ، فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين ، وهذا سر قوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن النفس الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال فلانت ، فاجعلها محنية بالركوع فقل : سمع الله لمن حمده ، ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى ، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بنهاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو ، وقل : سبحان ربي الأعلى ، فإذا أتيت بالسجدة الثانية فقد حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة : الركوع الواحد ، والسجودان ، وبها تنجو من العقبات الثلاث المهلكة ، فبالركوع تنجو عن عقبة الشهوات ، وبالسجود الأول تنجو عن عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات ، وبالسجود الثاني تنجو عن عقبة الهوى الذي هو الداعي إلى كل المهلكات والمضلات ، فإذا تجاوزت هذه العقبات وتخلصت عن هذه الدركات فقد وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات وانتهيت إلى عتبة جلال مدبر الأرض والسماوات ، فقل عند ذلك التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، فالتحيات المباركات باللسان ، والصلوات بالأركان ، والطيبات بالجنان وقوة الإيمان ، ثم في هذا المقام يصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى الله عليه وسلم فيتلاقى الروحان ، ويحصل هناك الروح والراحة والريحان ، فلا بد لروح محمد عليه الصلاة والسلام من محمدة وتحية ، فقل : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فعند ذلك يقول محمد عليه الصلاة والسلام : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وكأنه قيل لك فهذه الخيرات والبركات بأي وسيلة وجدتها ؟ وبأي طريق وصلت إليها ؟ فقل بقولي : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، فقيل لك إن محمدا هو الذي هداك إليه فأي شيء هديتك له ؟ [ ص: 224 ] فقل : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، فقيل لك : إن إبراهيم هو الذي طلب من الله أن يرسل إليك مثل هذا الرسول فقال : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) [ البقرة : 129 ] فما جزاؤك له ؟ فقل : كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، فيقال لك : فكل هذه الخيرات من محمد أو من إبراهيم أو من الله ؟ فقل : بل من الحميد المجيد إنك حميد مجيد .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إن العبد إذا ذكر الله بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله عز وجل : " إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه " فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى هذا العبد فقال الله : إن ملائكة السماوات اشتاقوا إلى زيارتك وأحبوا القرب منك ، وقد جاءوك فابدأ بالسلام عليهم لتحصل لك فيه مرتبة السابقين ، فيقول العبد عن يمينه وعن شماله : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فلا جرم أنه إذا دخل الجنة الملائكة يدخلون عليه من كل باب ، فيقولون : ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية