الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله [ ص: 672 ] ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا

                                                                                                                                                                                                                                      ابتداء من هذا الدرس في السورة، تبدأ المعركة التي يخوضها القرآن بالجماعة المسلمة، في مواجهة الجاهلية المحيطة بها - واليهود من أهل الكتاب خاصة - تلك المعركة التي شهدنا مواقعها ومجالاتها في سورتي البقرة وآل عمران من قبل.. وهي هي.. والمعسكرات المعادية هي هي كذلك! المعسكرات التي تحدثنا عنها في تقديم سورة البقرة ، وفي تقديم سورة آل عمران ، وفي تقديم هذه السورة كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      ابتداء من هذا الدرس تبدأ المعركة الخارجية. معركة الجماعة المسلمة مع المعسكرات المعادية من حولها .. ولكن هذا في الحقيقة ليس بدء المعركة. فكل ما سبق في السورة من التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والعائلية والأخلاقية ومحو الملامح الجاهلية - في المجتمع المسلم الذي التقطه المنهج الرباني من سفح الجاهلية - وتخطيط وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة في هذا المجتمع.. كل ذلك لم يكن بعيدا عن المعركة الخارجية مع أعداء الجماعة المسلمة في المدينة خاصة; وفي الجزيرة عامة.. إنما كان التمهيد الحقيقي لها، والاستعداد الحقيقي لمواجهتها.. كانت تلك معركة البناء. بناء هذا المجتمع الجديد، على أسس المنهج الإسلامي الجديد; كي يستطيع أن يواجه المجتمعات المعادية من حوله، ويتفوق عليها.

                                                                                                                                                                                                                                      وكما رأينا في سورتي البقرة وآل عمران العناية تتجه أولا إلى بناء هذا المجتمع من داخله. بناء عقيدته وتصوراته، وأخلاقه ومشاعره، وتشريعاته وأوضاعه، إلى جانب تعليم الجماعة المسلمة كل شيء عن طبيعة أعدائها، ووسائلهم، وتحذيرها من كيدهم ومكرهم، وتوجيهها إلى المعركة معهم بقلوب مطمئنة، وعيون مفتوحة، وإرادات محشودة، ومعرفة بطبيعة المعركة وطبيعة الأعداء.. كذلك نجد الأمر هنا في هذه السورة، سواء بسواء.

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان القرآن فيها جميعا، يخوض المعركة بالجماعة المسلمة، في كل جبهة.. كان يخوضها في الضمائر والمشاعر، حيث ينشئ فيها عقيدة جديدة، ومعرفة بربها جديدة، وتصورا للوجود جديدا، ويقيم فيها [ ص: 673 ] موازين جديدة، وينشئ فيها قيما جديدة; ويستنقذ فطرتها من ركام الجاهلية ويمحو ملامح الجاهلية في النفس والمجتمع; وينشئ ويثبت ملامح الإسلام الوضيئة الجميلة.. ثم يقودها في المعركة مع أعدائها المتربصين بها في الداخل والخارج.. اليهود والمنافقين والمشركين .. وهي على أتم استعداد للقائهم، والتفوق عليهم; بمتانة بنائها الداخلي الجديد: الاعتقادي والأخلاقي والاجتماعي والتنظيمي سواء..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كان التفوق الحقيقي للمجتمع المسلم على المجتمعات الجاهلية من حوله - بما فيها مجتمع اليهود القائم في قلب المدينة - هو تفوقه في البناء الروحي والخلقي والاجتماعي والتنظيمي - بفضل المنهج القرآني الرباني - قبل أن يكون تفوقا عسكريا أو اقتصاديا أو ماديا على العموم!

                                                                                                                                                                                                                                      بل هو لم يكن قط تفوقا عسكريا واقتصاديا - ماديا - فقد كان أعداء المعسكر الإسلامي دائما أكثر عددا، وأقوى عدة، وأغنى مالا، وأوفر مقدرات مادية على العموم! سواء في داخل الجزيرة العربية ، أو في خارجها في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك.. ولكن التفوق الحقيقي كان في ذلك البناء الروحي والخلقي والاجتماعي - ومن ثم السياسي والقيادي - الذي أسسه الإسلام بمنهجه الرباني المتفرد.

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا التفوق الساحق على الجاهلية في بنائها الروحي والخلقي والاجتماعي - ومن ثم السياسي والقيادي - اجتاح الإسلام الجاهلية.. اجتاحها أولا في الجزيرة العربية . واجتاحها ثانيا في الإمبراطوريتين العظيمتين الممتدتين حوله: إمبراطوريتي كسرى وقيصر .. ثم بعد ذلك في جوانب الأرض الأخرى. سواء كان معه جيش وسيف، أم كان معه مصحف وأذان!

                                                                                                                                                                                                                                      ولولا هذا التفوق الساحق ما وقعت تلك الخارقة التي لم يعرف لها التاريخ نظيرا. حتى في الاكتساحات العسكرية التاريخية الشهيرة. كزحف التتار في التاريخ القديم. وزحف الجيوش الهتلرية في التاريخ الحديث.. ذلك أنه لم يكن اكتساحا عسكريا فحسب. ولكنه كان اكتساحا عقيديا. ثقافيا. حضاريا كذلك! يتجلى فيه التفوق الساحق الذي يطوي - من غير إكراه - عقائد الشعوب ولغاتها، وتقاليدها وعاداتها.. الأمر الذي لا نظير له على الإطلاق في أي اكتساح عسكري آخر، قديما أو حديثا!

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان تفوقا "إنسانيا" كاملا. تفوقا في كل خصائص "الإنسانية" ومقوماتها. كان ميلادا آخر للإنسان. ميلاد إنسان جديد غير الذي تعرفه الأرض على وجه اليقين والتأكيد. ومن ثم صبغ البلاد التي غمرها هذا المد بصبغته; وترك عليها طابعه الخاص; وطغى هذا المد على رواسب الحضارات التي عاشت عشرات القرون من قبل في بعض البلاد. كالحضارة الفرعونية في مصر . وحضارة البابليين والأشوريين في العراق ، وحضارة الفينيقيين والسريان في الشام . لأنه كان أعمق جذورا في الفطرة البشرية; وأوسع مجالا في النفس الإنسانية، وأضخم قواعد وأشمل اتجاهات في حياة بني الإنسان، من كل تلك الحضارات.

                                                                                                                                                                                                                                      وغلبة اللغة الإسلامية واستقرارها في هذه البلاد، ظاهرة عجيبة، لم تستوف ما تستحقه من البحث والدراسة والتأمل، وهي في نظري أعجب من غلبة العقيدة واستقرارها. إذ أن اللغة من العمق في الكينونة البشرية ومن التشابك مع الحياة الاجتماعية، بحيث يعد تغييرها على هذا النحو معجزة كاملة! وليس الأمر في هذا هو أمر "اللغة العربية" . فاللغة العربية كانت قائمة; ولكنها لم تصنع هذه المعجزة في أي مكان على ظهر الأرض - قبل الإسلام - ومن ثم سميتها "اللغة الإسلامية" فالقوة الجديدة التي تولدت في اللغة العربية، وأظهرت هذه المعجزة على يديها، كانت هي "الإسلام" قطعا!

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك اتجهت العبقريات الكامنة في البلاد المفتوحة (المفتوحة للحرية والنور والطلاقة) اتجهت إلى التعبير [ ص: 674 ] عن ذاتها - لا بلغاتها الأصلية - ولكن باللغة الجديدة. لغة هذا الدين. اللغة الإسلامية. وأنتجت بهذه اللغة في كل حقل من حقول الثقافة نتاجا تبدو فيه الأصالة; ولا يلوح عليه الاحتباس من معاناة التعبير في لغة غريبة - غير اللغة الأم - لقد أصبحت اللغة الإسلامية هي اللغة الأم فعلا لهذه العبقريات.. ذلك أن الرصيد الذي حملته هذه اللغة كان من الضخامة أولا; ومن ملاصقة الفطرة ثانيا; بحيث كان أقرب إلى النفوس وأعمق فيها، من ثقافاتها القديمة. ومن لغاتها القديمة أيضا!

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان هذا الرصيد هو رصيد العقيدة والتصور; ورصيد البناء الروحي والعقلي والخلقي والاجتماعي الذي أنشأه المنهج الإسلامي في فترة وجيزة. وكان من الضخامة والعمق واللصوق بالفطرة، بحيث أمد اللغة - لغة الإسلام - بسلطان لا يقاوم. كما أمد الجيوش - جيوش الإسلام - بسلطان لا يقاوم كذلك! وبغير هذا التفسير يصعب أن نعلل تلك الظاهرة التاريخية الفريدة.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى أية حال فهذا موضوع يطول شرحه. فحسبنا منه هذه اللمحة في سياق الظلال..

                                                                                                                                                                                                                                      منذ هذا الدرس في هذه السورة تبدأ المعركة مع المعسكرات المعادية المتربصة بالجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة .. ففي هذا الدرس تعجيب من حال اليهود وتصرفاتهم في مواجهة الدين الجديد والجماعة التي تمثله.. وفي الدرس الذي يليه بيان لوظيفة الجماعة المسلمة، وطبيعة منهجها، وحد الإسلام، وشرط الإيمان، الذي يتميز به منهجها وحياتها ونظامها.. وفي الدرس الذي يليه دعوة لهذه الجماعة للذود عن منهجها ووضعها ووجودها; وكشف للمنافقين المندسين فيها; وبيان لطبيعة الموت والحياة وقدر الله الذي يجري بهما; وهو جزء من تربية هذه الجماعة، وإعدادها لوظيفتها وللمعركة مع أعدائها.. وفي الدرس الذي يليه مزيد من الحديث عن المنافقين; وتحذير للجماعة المسلمة من الانقسام في شأنهم، أو الدفاع عن تصرفاتهم. ثم تفصيل للإجراءات التي تواجه بها الجماعة المسلمة شتى المعسكرات من حولها أي: لقواعد قانون المعاملات الدولية - وفي الدرس الذي يليه نجد نموذجا لرفعة الإسلام في معاملته ليهودي فرد في المجتمع الإسلامي! .. والدرس الذي يليه جولة مع الشرك والمشركين، وتوهين للأسس التي يقوم عليها المجتمع المشرك في الجزيرة .. ويتوسط هذه المعركة لمحة من التنظيم الداخلي، ترتبط بأوائل السورة في شأن الأسرة.. ثم يجيء الدرس الأخير - في هذا الجزء - خاصا بالنفاق والمنافقين; يهبط بهم إلى الدرك الأسفل من النار!

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الإشارات الخاطفة تبين لنا طبيعة مجالات المعركة وجوانبها المتعددة في الداخل والخارج.. وطبيعة التوافق والتكامل، بين المعركة الداخلية والمعركة الخارجية في حياة المجتمع الإسلامي الأول.. وهي هي بذاتها معركة الأمة المسلمة اليوم وغدا في أساسها وحقيقتها.

                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا، يحرفون الكلم عن مواضعه. ويقولون: سمعنا وعصينا، واسمع - غير مسمع - وراعنا. ليا بألسنتهم، وطعنا في الدين. ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا، لكان خيرا لهم وأقوم. ولكن لعنهم الله بكفرهم، فلا يؤمنون إلا قليلا ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه التعجيب الأول - من سلسلة التعجيبات الكثيرة - من موقف أهل الكتاب - من اليهود - يوجه الخطاب فيه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو إلى كل من يرى هذا الموقف العجيب المستنكر: [ ص: 675 ] ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب.. يشترون الضلالة. ويريدون أن تضلوا السبيل ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان من شأن أن يؤتوا نصيبا من الكتاب.. الهداية.. فقد آتاهم الله التوراة، على يدي موسى عليه السلام، لتكون هداية لهم من ضلالتهم الأولى.. ولكنهم يدعون هذا النصيب. يدعون الهداية. ويشترون الضلالة! والتعبير بالشراء يعني القصد والنية في المبادلة! ففي أيديهم الهدى ولكنهم يتركونه ويأخذون الضلالة. فكأنما هي صفقة عن علم وعن قصد وعمد. لا عن جهل أو خطأ أو سهو! وهو أمر عجيب مستنكر، يستحق التعجيب منه والاستنكار.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكنهم لا يقفون عند هذا الأمر العجيب المستنكر. بل هم يريدون أن يضلوا المهتدين. يريدون أن يضلوا المسلمين.. بشتى الوسائل وشتى الطرق. التي سبق ذكرها في سورتي البقرة وآل عمران ; والتي سيجيء طرف منها في هذه السورة كذلك.. فهم لا يكتفون بضلال أنفسهم الذي يشترونه; بل يحاولون طمس معالم الهدى من حولهم; حتى لا يكون هناك هدى ولا مهتدون!

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه اللمسة: الأولى، والثانية، تنبيه للمسلمين وتحذير من ألاعيب اليهود وتدبيرهم.. ويا له من تدبير! وإثارة كذلك لنفوس المسلمين ضد الذين يريدون لهم الضلالة بعد الهدى. وقد كان المسلمون يعتزون بهذا الهدى ويعادون من يحاول ردهم عنه إلى جاهليتهم التي عرفوها وعرفوا الإسلام. فكرهوها وأحبوا الإسلام! وكرهوا كل من يحاول ردهم إليها في قليل أو كثير.. وكان القرآن يخاطبهم هكذا، عن علم من الله، بما في صدورهم من هذا الأمر الكبير.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يعقب على إبراز هذه المحاولة من اليهود ، بالتصريح بأن هؤلاء أعداء للمسلمين. وبتطمين الجماعة المسلمة إلى ولاية الله ونصره، إزاء تلك المحاولة:

                                                                                                                                                                                                                                      والله أعلم بأعدائكم. وكفى بالله وليا. وكفى بالله نصيرا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا يصرح العداء ويستعلن، بين الجماعة المسلمة واليهود في المدينة .. وتتحدد الخطوط..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان التعجيب من أهل الكتاب عامة - وكان المفهوم أن المعنيين هم يهود المدينة - ولكن السياق لا يكتفي بهذا المفهوم. بل يمضي فيعين اليهود . ثم يصف حالهم وتصرفاتهم وسوء أدبهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الفترة التي يبدو أنها كانت في أوائل سنوات الهجرة، قبل أن تخضد شوكتهم في المدينة :

                                                                                                                                                                                                                                      من الذين هادوا، يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون: سمعنا وعصينا. واسمع - غير مسمع - وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين. ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد بلغ من التوائهم، وسوء أدبهم مع الله عز وجل: أن يحرفوا الكلام عن المقصود به. والأرجح أن ذلك يعني تأويلهم لعبارات التوراة بغير المقصود منها. وذلك كي ينفوا ما فيها من دلائل على الرسالة الأخيرة; ومن أحكام كذلك وتشريعات يصدقها الكتاب الأخير; وتدل وحدتها في الكتابين على المصدر الواحد; وتبعا لهذا على صحة رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحريف الكلم عن المقصود به ، ليوافق الأهواء، ظاهرة ملحوظة في كل رجال دين ينحرفون عن دينهم، ويتخذونه حرفة وصناعة، يوافقون بها أهواء ذوي السلطان في كل زمان; وأهواء الجماهير التي تريد التفلت من الدين.. واليهود أبرع من يصنع ذلك. وإن كان في زماننا هذا من محترفي دين المسلمين من ينافسون - في هذه الخصلة - اليهود !

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بلغ من التوائهم وسوء أدبهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقولوا له: سمعنا يا محمد ما تقول. ولكننا عصينا! فلا نؤمن ولا نتبع ولا نطيع! مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في وقت مبكر، حيث [ ص: 676 ] كانت لليهود هذه الجرأة على مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يضيفون إلى التبجح سوء الأدب والخلق والالتواء أيضا. إذ يقولون للرسول - صلى الله عليه وسلم - :

                                                                                                                                                                                                                                      واسمع - غير مسمع - وراعنا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ففي ظاهر اللفظ أنهم يقولون: اسمع - غير مأمور بالسمع (وهي صيغة تأدب) - وراعنا: أى: انظر إلينا نظرة رعاية لحالنا أو نظرة اهتمام لوضعنا. بما أنهم أهل كتاب، فلا ينبغي أن يدعوا إلى الإسلام كالمشركين! أما في اللي الذي يلوونه، فهم يقصدون: اسمع - لا سمعت، ولا كنت سامعا! - (أخزاهم الله) . وراعنا يميلونها إلى وصف "الرعونة" !. وهكذا.. تبجح وسوء أدب، والتواء ومداهنة، وتحريف للكلم عن مواضعه وعن معانيه..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها يهود !!!

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية