الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان

قد علمت أن هذه الآيات تكملة للآيات السابقة وأن لا نسخ في خلال هاته الآيات ، فقوله : شهر رمضان خبر مبتدأ محذوف تقديره هي ؛ أي : الأيام المعدودات شهر رمضان ، والجملة [ ص: 169 ] مستأنفة بيانيا ؛ لأن قوله : أياما معدودات يثير سؤال السامع عن تعيين هذه الأيام ، ويؤيد ذلك قراءة مجاهد " شهرا " بالنصب على البدلية من " أياما " : بدل تفصيل .

وحذف المسند إليه جار على طريقة الاستعمال في المسند إليه إذا تقدم من الكلام ما فيه تفصيل وتبيين لأحوال المسند إليه فهم يحذفون ضميره ، وإذا جوزت أن يكون هذا الكلام نسخا لصدر الآية لم يصح أن يكون التقدير : هي شهر رمضان ، فيتعين أن يكون شهر رمضان مبتدأ ، خبره قوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، واقتران الخبر بالفاء حينئذ مراعاة لوصف المبتدأ بالموصول الذي هو شبيه بالشرط ، ومثله كثير في القرآن وفي كلام العرب ، أو على زيادة الفاء في الخبر كقوله :

وقائلة خولان فانكح فتاتهم أنشده سيبويه ، وكلا هذين الوجهين ضعيف .

والشهر جزء من اثني عشر جزءا من تقسيم السنة قال تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض والشهر يبتدئ من ظهور الهلال إلى المحاق ، ثم ظهور الهلال مرة أخرى ، وهو مشتق من الشهرة ؛ لأن الهلال يظهر لهم فيشهرونه ليراه الناس فيثبت الشهر عندهم .

ورمضان : علم وليس منقولا ؛ إذ لم يسمع مصدر على وزن الفعلان من رمض - بكسر الميم - إذا احترق ؛ لأن الفعلان يدل على الاضطراب ولا معنى له هنا ، وقيل : هو منقول عن المصدر . ورمضان علم على الشهر التاسع من أشهر السنة العربية القمرية المفتتحة بالمحرم ؛ فقد كان العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم ؛ لأن نهاية العام عندهم هي انقضاء الحج ومدة الرجوع إلى آفاقهم ، ألا ترى أن لبيدا جعل جمادى الثانية وهو نهاية فصل الشتاء شهرا سادسا إذ قال :


حتى إذا سلخا جمادى ستة     جزءا فطال صيامه وصيامها

ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون ؛ لأنه مشتق من الرمضاء وهي الحرارة ، لأن رمضان أول أشهر الحرارة بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب إذ كانت [ ص: 170 ] السنة تنقسم إلى ستة فصول كل فصل منها شهران : الفصل الأول الخريف وشهراه محرم وصفر ، الثاني : ربيع الأول وهو وقت نضج الثمار وظهور الرطب والتمر وشهراه شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصف لشهر ، ألا ترى أن العرب يقولون : الرطب شهري ربيع ، الثالث : الشتاء وشهراه جمادى الأولى وجمادى الثانية قال حاتم :


في ليلة من جمادى ذات أندية     لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة     حتى يلف على خيشومه الذنبا

الرابع : الربيع الثاني - والثاني وصف للربيع - وهذا هو وقت ظهور النور والكمأة ، وشهراه رجب وشعبان ، وهو فصل الدر والمطر ، قال النابغة يذكر غزوات النعمان بن الحارث :


وكانت لهم ربعية يحذرونها     إذا خضخضت ماء السماء القبائل

وسموه الثاني ؛ لأنه يجيء بعد الربيع الأول في حساب السنة ، قال النابغة :


فإن يهلك أبو قابوس يهلك     ربيع الثان والبلد الحرام

في رواية وروى " ربيع الناس " ، وسموا كلا منهما ربيعا ؛ لأنه وقت خصب ، الفصل الخامس الصيف ، وهو مبدأ الحر ، وشهراه رمضان وشوال ؛ لأن النوق تشول أذنابها فيه تطرد الذباب .

السادس : القيظ وشهراه ذو القعدة وذو الحجة . وبعض القبائل تقسم السنة إلى أربعة ، كل فصل له ثلاثة أشهر ؛ وهي الربيع وشهوره رجب وشعبان ورمضان ، والصيف وشهوره شوال وذو القعدة وذو الحجة ، والخريف وشهوره محرم وصفر والربيع الأول ، والشتاء وشهوره شهر ربيع الثاني - على أن الأول والثاني وصفان لشهر لا لربيع - وجمادى الأولى وجمادى الثانية .

ولما كانت أشهر العرب قمرية ، وكانت السنة القمرية أقل من أيام السنة الشمسية التي تجيء بها الفصول تنقص أحد عشر يوما وكسرا ، وراموا أن يكون الحج في وقت الفراغ من الزروع والثمار ووقت السلامة من البرد وشدة الحر - جعلوا للأشهر كبسا بزيادة شهر في السنة بعد ثلاث سنين وهو المعبر عنه بالنسيء .

[ ص: 171 ] وأسماء الشهور كلها أعلام لها عدا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني ، فلذلك وجب ذكر لفظ الشهر معهما ، ثم وصفه بالأول والثاني ؛ لأن معناه الشهر الأول من فصل الربيع أعني الأول ، فالأول والثاني صفتان لشهر ، أما الأشهر الأخرى فيجوز فيها ذكر لفظ الشهر بالإضافة من إضافة اسم النوع إلى واحده ، مثل شجر الأراك ومدينة بغداد ، وبهذا يشعر كلام سيبويه والمحققين ، فمن قال : إنه لا يقال رمضان إلا بإضافة شهر إليه بناء على أن رمضان مصدر ، حتى تكلف لمنعه من الصرف بأنه صار بإضافة شهر إليه علما ، فمنع جزء العلم من الصرف كما منع هريرة في أبي هريرة فقد تكلف شططا وخالف ما روي من قول النبيء صلى الله عليه وسلم من صام رمضان إيمانا واحتسابا بنصب رمضان وإنما انجر إليهم هذا الوهم من اصطلاح كتاب الديوان كما في أدب الكاتب .

وإنما أضيف الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن الإيجاز المطلوب لهم يقتضي عدم ذكره ، إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم ؛ لأنه لو قال : رمضان ، لكان ظاهرا لا نصا ، لا سيما مع تقدم قوله : ( أياما ) فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان .

فالمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية هو الذي جعل ظرفا لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين ، فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه ، ولما كان ذلك حلوله مكررا في كل عام كان وجوب الصوم مكررا في كل سنة ؛ إذ لم ينط الصيام بشهر واحد مخصوص ، ولأن ما أجري على الشهر من الصفات يحقق أن المراد منه الأزمنة المسماة به طول الدهر .

وظاهر قوله : الذي أنزل فيه القرآن أن المخاطبين يعلمون أن نزول القرآن وقع في شهر رمضان ، لأن الغالب في صلة الموصول أن يكون السامع عالما باختصاصها بمن أجري عليه الموصول ، ولأن مثل هذا الحدث الديني من شأنه ألا يخفى عليهم ، فيكون الكلام تذكيرا بهذا الفضل العظيم ، ويجوز أيضا أن يكون إعلاما بهذا الفضل ، وأجري الكلام على طريقة الوصف بالموصول للتنبيه على أن الموصوف مختص بمضمون هذه الصلة بحيث تجعل طريقا لمعرفته ، ولا نسلم لزوم علم المخاطب باتصاف ذي الصلة بمضمونها في التعريف بالموصولية ، بل ذلك غرض أغلبي كما يشهد به تتبع كلامهم ، وليس المقصود الإخبار [ ص: 172 ] عن شهر رمضان بأنه أنزل فيه القرآن ؛ لأن تركيب الكلام لا يسمح باعتباره خبرا ؛ لأن لفظ شهر رمضان خبر وليس هو مبتدأ ، والمراد بإنزال القرآن ابتداء إنزاله على النبيء صلى الله عليه وسلم ، فإن فيه ابتداء النزول من عام واحد وأربعين من الفيل فعبر عن إنزال أوله باسم جميعه ؛ لأن ذلك القدر المنزل مقدر إلحاق تكملته به ، كما جاء في كثير من الآيات ، مثل قوله : وهذا كتاب أنزلناه مبارك وذلك قبل إكمال نزوله ، فيشمل كل ما يلحق به من بعد ، وقد تقدم قوله : والذين يؤمنون بما أنزل إليك ومعنى أنزل فيه القرآن أنزل في مثله ؛ لأن الشهر الذي أنزل فيه القرآن قد انقضى قبل نزول آية الصوم بعدة سنين ، فإن صيام رمضان فرض في السنة الثانية للهجرة فبين فرض الصيام والشهر الذي أنزل فيه القرآن حقيقة - عدة سنين ، فيتعين بالقرينة أن المراد أنزل في مثله ؛ أي : في نظيره من عام آخر .

فقد جعل الله للمواقيت المحدودة اعتبارا يشبه اعتبار الشيء الواحد المتجدد ، وإنما هذا اعتبار للتذكير بالأيام العظيمة المقدار ، كما قال تعالى : وذكرهم بأيام الله ، فخلع الله على المواقيت التي قارنها شيء عظيم في الفضل أن جعل لتلك المواقيت فضلا مستمرا تنويها بكونها تذكرة لأمر عظيم ، ولعل هذا هو الذي جعل الله لأجله سنة الهدي في الحج ؛ لأن في مثل ذلك الوقت ابتلى الله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وأظهر عزم إبراهيم وطاعته ربه ، ومنه أخذ العلماء تعظيم اليوم الموافق ليوم ولادة النبيء صلى الله عليه وسلم ، ويجيء من هذا إكرام ذرية رسول الله وأبناء الصالحين وتعظيم ولاة الأمور الشرعية القائمين مقام النبيء صلى الله عليه وسلم في أعمالهم من الأمراء والقضاة والأئمة .

وهذا يدل على أن مراد الله تعالى من الأمة صوم ثلاثين يوما متتابعة مضبوطة المبدأ والنهاية متحدة لجميع المسلمين .

ولما كان ذلك هو المراد وقت بشهر معين قمريا لسهولة ضبط بدئه ونهايته برؤية الهلال والتقدير ، واختير شهر رمضان من بين الأشهر ؛ لأنه قد شرف بنزول القرآن فيه ، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة وهداها ، ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس والتقرب من الحالة الملكية واقعا فيه ، والأغلب على ظني أن النبيء صلى الله عليه وسلم كان يصوم أيام تحنثه في غار حراء قبل أن ينزل عليه الوحي إلهاما من الله تعالى وتلقينا لبقية [ ص: 173 ] من الملة الحنفية ، فلما أنزل عليه الوحي في شهر رمضان أمر الله الأمة الإسلامية بالصوم في ذلك الشهر ، روى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : جاورت بحراء شهر رمضان ، وقال ابن سعد : جاء الوحي وهو في غار حراء يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان .

وقوله : هدى للناس وبينات من الهدى حالان من القرآن إشارة بهما إلى وجه تفضيل الشهر بسبب ما نزل فيه من الهدى والفرقان .

والمراد بالهدى الأول : ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة ، وبالبينات من الهدى : ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير من الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية . والفرقان مصدر فرق ، وقد شاع في الفرق بين الحق والباطل ؛ أي : إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام ، فالمراد بالهدى الأول : ضرب من الهدى غير المراد من الهدى الثاني ، فلا تكرار .

التالي السابق


الخدمات العلمية