الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم

                                                                                                                                                                                                                                      قد تقدم الكلام في الكلالة في أول هذه السورة ، وسيأتي ذكر المستفتي المقصود بقوله : ( يستفتونك ) قوله : إن امرؤ هلك أي : إن امرؤ هلك كما تقدم في قوله : وإن امرأة خافت [ النساء : 128 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ليس له ولد إما صفة لامرؤ أو حال ، ولا وجه للمنع من كونه حالا ، والولد يطلق على الذكر والأنثى ، واقتصر على عدم الولد هنا مع أن عدم الولد معتبر في الكلالة اتكالا على ظهور ذلك ، قيل : والمراد بالولد هنا الابن ، وهو أحد معنيي المشترك ؛ لأن البنت لا تسقط الأخت ، وقوله : ( وله أخت ) عطف على قوله : ( ليس له ولد ) .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بالأخت هنا هي الأخت لأبوين أو لأب لا لأم ، فإن فرضها السدس كما ذكر سابقا ، وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن الأخوات لأبوين أو لأب عصبة للبنات وإن لم يكن معهم أخ .

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب ابن عباس إلى أن وإليه ذهب داود الظاهري وطائفة وقالوا : إنه لا ميراث للأخت لأبوين أو لأب مع البنت ، واحتجوا بظاهر هذه الآية ، فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى قيدا في ميراث الأخت ، وهذا استدلال صحيح لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت ، وهو ما ثبت في الصحيح أن معاذا قضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بنت وأخت فجعل للبنت النصف وللأخت النصف ، وثبت في الصحيح أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت فجعل للبنت النصف ولبنت الابن السدس وللأخت الباقي فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ( وهو يرثها ) أي : المرء يرثها ؛ أي : يرث الأخت إن لم يكن لها ولد ذكر إن كان المراد بإرثه لها حيازته لجميع ما تركته ، وإن كان المراد : ثبوت ميراثه له في الجملة أعم من أن يكون كلا أو بعضا صح تفسير الولد بما يتناول الذكر والأنثى ، واقتصر سبحانه في هذه الآية على نفي الولد مع كون الأب يسقط الأخ كما يسقطه الولد الذكر ؛ لأن المراد بيان حقوق الأخ مع الولد فقط هنا ، وأما سقوطه مع الأب فقد تبين بالسنة كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر والأب أولى من الأخ ( فإن كانتا اثنتين ) أي : فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين ، والعطف على الشرطية السابقة والتأنيث والتثنية ، وكذلك الجمع في قوله : وإن كانوا إخوة باعتبار الخبر فلهما الثلثان مما ترك المرء إن لم يكن له ولد كما سلف وما فوق الاثنتين من الأخوات يكون لهن الثلثان بالأولى ( وإن كانوا ) أي : من يرث بالأخوة إخوة رجالا ونساء أي : مختلطين ذكورا وإناثا ( فللذكر ) منهم ( مثل حظ الأنثيين ) تعصيبا يبين الله لكم أن تضلوا أي : يبين لكم حكم الكلالة وسائر الأحكام كراهة أن تضلوا ، هكذا حكاه القرطبي عن البصريين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكسائي : المعنى : لئلا تضلوا ، ووافقه الفراء وغيره من الكوفيين والله بكل شيء من الأشياء التي هذه الأحكام المذكورة منها ( عليم ) أي : كثير العلم ، وقد أخرج البخاري ، ومسلم وأهل السنن وغيرهم ، عن جابر بن عبد الله قال : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مريض لا أعقل ، فتوضأ ثم صب علي فعقلت ، فقلت : إنه لا [ ص: 348 ] يرثني إلا كلالة فكيف الميراث ؟ فنزلت آية الفرائض .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرجه عنه ابن سعد ، وابن أبي حاتم بلفظ أنزلت في يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة . وأخرج ابن راهويه ، وابن مردويه ، عن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تورث الكلالة : فأنزل الله يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية . وأخرج مالك ، ومسلم ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن عمر قال : ما سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء أكثر مما سألته في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال : ما تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء . وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والبيهقي ، عن البراء بن عازب قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن الكلالة ؟ فقال : تكفيك آية الصيف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما ، عن عمر قال : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا . وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن البراء بن عازب قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن سيرين قال : كان عمر بن الخطاب إذا قرأ يبين الله لكم أن تضلوا قال : اللهم من بينت له الكلالة فلم تبين لي ، وقد أوضحنا الكلام خلافا واستدلالا وترجيحا في شأن الكلالة في أوائل هذه السورة فلا نعيده .

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى هنا انتهى الجزء الأول من التفسير المبارك : المسمى فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير بقلم مؤلفه الراجي من ربه سبحانه أن يعينه على تمامه ، وينفع به من شاء من عباده ، ويجعله ذخيرة له عند وفوده إلى الدار الآخرة محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله لهما ، وكان الانتهاء إلى هذا الموضع في يوم العيد الأكبر ، يوم النحر المبارك من سنة أربع وعشرين بعد مائتين وألف من الهجرة النبوية ، حامدا لله ومصليا ومسلما على رسوله وحبيبه محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه .

                                                                                                                                                                                                                                      اهـ . الحمد له : كمل سماعا ، والحمد لله في شهر القعدة من عام سنة 1232 .

                                                                                                                                                                                                                                      يحيى بن علي الشوكاني .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية