الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1140 - وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال : " مروا أبا بكر أن يصلي بالناس " ، فصلى أبو بكر تلك الأيام ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه خفة ، فقام يهادى بين رجلين ، ورجلاه تخطان في الأرض ، حتى دخل المسجد ، فلما سمع أبو بكر حسه ، ذهب يتأخر ، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر ، فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر ، وكان أبو بكر يصلي قائما ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا ، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر ، متفق عليه . وفي رواية لهما : يسمع أبو بكر الناس التكبير .

التالي السابق


1140 - ( وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : بفتح الثاء وضم القاف ، أي : اشتد مرضه وتناهى ضعفه ( جاء بلال يؤذنه ) : قال المظهر : بسكون الهمز وتخفيف الذال ، أي : يعلمه ويخبره ، وبفتح الهمزة وتشديد الذال يدعوه ، أي : رافعا صوته ، والتأذين رفع الصوت في دعاء أحد ومنه الأذان اهـ . ويجوز إبدال الهمزة فيهما واوا ( بالصلاة ) أي : يعلمه بقربها أو يدعوه إليها ، ليؤمهم أو يقدم من يؤمهم ، ( فقال : " مروا أبا بكر أن يصلي بالناس ) : في شرح السنة : فيه دلالة على أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاهم بخلافته ، كما قالت الصحابة : رضيه صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا ؟ قلت : وقد أكد الأمر بمجيئه واقتدائه به في بعض الصلوات على ما سيأتي من الروايات جمعا بين الدليلين ، أعني القولي والفعلي والأمري والتقريري ، حتى لا يتوهم أن هذا الأمر اتفاقي لا قصدي ، ( فصلى أبو بكر تلك الأيام ) أي سبع عشرة صلاة كما نقله الدمياطي مدة شدة مرضه عليه السلام ( ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه خفة ) أي : قوة وزال بعض المرض ( فقام يهادى ) : بفتح الدال كما قاله ابن الملك ( بين رجلين ) أي : يمشي معتمدا عليهما من ضعفه وتمايله ، وإحدى يديه على عاتق أحدهما والأخرى على عاتق الآخر ، والرجلان عباس وعلي ، وقيل : عباس وأسامة ، وقيل : عباس والفضل ، ( ورجلاه تخطان في الأرض ) أي : تمدان فيها إذ لا يقدر أن يرفعهما عنها من الضعف ( حتى دخل المسجد ، فلما سمع أبو بكر حسه ) أي حركته أو صوته ( ذهب ) أي : قصد أو طفق أو شرع ( يتأخر ) : عن موضعه ليقوم عليه السلام مقامه ، ( فأومأ ) : بالهمز ، وفي نسخة عفيف الدين : فأومأ بالألف المبدلة عن الياء ، وهو غير صحيح ، ففي القاموس : أومأ كوضع ، وأومأ وومأ أشار كذا في باب الهمز ، ولم يذكر مادة و م ي أصلا ، نعم له وجه أن يبدل الهمز ألفا على لغة ، أي أشار ( إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر ) أي : بعدم تأخره لعدم خرم الصف ، وليس فيه تصريح بشروع أبي بكر في الصلاة ، لكن ذكر الشافعية أن في الحديث دلالة على أنه يجوز الصلاة بإمامين على التعاقب من غير تجديد نية الاقتداء بالثاني ، يعني : من غير حذف الأول مثل أن يقتدي بإمام فيفارقه ، ويقتدي بإمام آخر ، ويجوز أن يقتدي بإمام والمأموم سابق ببعض صلاته ، ويجوز إنشاء القدوة في أثناء الصلاة ; لأن الصحابة كانوا مقتدين بأبي بكر ، وصاروا مقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنهم تجديد نية .

وقال العسقلاني : ويدل على أنه إذا حضر الإمام بعدما دخل نائبه جاز له أن يؤم ، ويصير النائب مأموما ، ولا تبطل بذلك صلاة المأمومين ، وادعى ابن عبد البر أنه من خصائصه عليه السلام وادعى الإجماع على ذلك ، ونوقض بأن الخلاف مشهور عند الشافعية على ذلك اهـ .

قلت : كأنه ما عد خلافهم معتدا به ، وقال ابن الملك : إن النبي صلى الله عليه وسلم صار إماما لأبي بكر وكان أبو بكر إماما في أولها ، لكن اقتدي به عليه السلام بعد مجيئه ، وفيه أنه مع احتياجه إلى نقل الاقتداء مخالف لإجماع العلماء ، وأيضا المقرر في المذهب أن من شرع في فرض منفردا يجوز له القطع للجماعة ، وأما من شرع بجماعة لا يجوز له الإبطال ، فيرجع إلى القول بالخصوصية في المآل ، والله أعلم بالحال .

قال السيوطي : خص صلى الله عليه وسلم بجواز استخلافه في الإمامة ، كما وقع لأبي بكر حين تأخر وقدمه فيما قاله جماعة من العلماء ( فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر ) : وفيه إشارة إلى أنه عليه السلام هو الإمام بجعله أبا بكر عن يمينه كما هو الأفضل ، ولو كان مقتديا بأبي بكر لكان قيامه عملا بالجواز أو بالضرورة ، ثم رأيت الطحاوي ذكر أن هذا قعود الإمام لا قعود المأموم ، وأخرى أن عبد الله بن عباس قال في حديثه : فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة من حيث انتهى أبو بكر ، ولم يقرأ أبو بكر بعد ذلك ، وكانت الصلاة فيما يجهر بالقراءة ، فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام إذ أجمعوا أن المأموم لا يقرأ في حال الجهر مع الإمام اهـ .

[ ص: 878 ] وفيه دلالة على أن قراءة الفاتحة ليست بركن كما لا يخفى ، ( فكان أبو بكر يصلي قائما ) : وانفراده لكونه ضرورة غير مكروه ، ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا ) : بسبب العذر ( يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : قيل : يصنع صنعه ، قال ابن حجر : فيه أوضح الرد على من زعم أنه صلى الله عليه وسلم كان مقتديا بأبي بكر وإن تقدم عليه ; لأن التقدم عندهم جائز اهـ .

وفيه أنه لا تقدم حيث جلس عن يسار أبي بكر إلا بثبت ، ولعل المالكية لهم دليل غير هذا التعليل ، ( والناس يقتدون بصلاة أبي بكر ) أي : يصنعون مثل ما صنع أبو بكر ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان قاعدا وأبو بكر كان بجنبه قائما ; لأن أبا بكر كان إمام القوم ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إمامه ; إذ الاقتداء بالمأموم لا يجوز ، بل الإمام كان النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر والناس يقتدون به ، كذا حرره بعض أئمتنا . ( متفق عليه . وفي رواية لهما : يسمع ) : من الإسماع ، وفي نسخة بالتشديد ، أي : يبلغ ( أبو بكر الناس التكبير ) أي : تكبير النبي صلى الله عليه وسلم يعني : كان أبو بكر مكبرا لا إماما ، قال ابن حجر : وفي رواية لمسلم : فكان يصلي بالناس جالسا ، وأبو بكر قائما يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر وفي أخرى له ، أيضا ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير ، قال ابن الهمام : وفي الدراية وبه يعرف جواز رفع المؤذنين أصواتهم في الجمعة والعيدين وغيرها اهـ .

أقول : ليس مقصودا خصوص الرفع الكائن في زماننا بل أصل الرفع لإبلاغ الانتقالات ، أما خصوص هذا الذي تعارفوه في هذه البلاد فلا يبعد أنه مفسد ، فإنه غالبا يشتمل على مد همزة الله أكبر أو أكبر أو بائه وذلك مفسد ، وإن لم يشتمل فلأنهم يبالغون في الصياح زيادة على حاجة الإبلاغ والاشتغال بتحريرات النغم إظهارا للصناعة النغمية لا إقامة للعبادة ، والصياح ملحق بالكلام الذي ساقه ذلك الصياح ، وسيأتي في باب ما يفسد الصلاة أنه إذا ارتفع بكاؤه من ذكر الجنة والنار لا تفسد ، ولمصيبة بلغته تفسد ; لأنه في التعرض الأول تعرض لسؤال الجنة والتعوذ ، وإن كان يقال : إن المراد إذا حصل به الحروف ولو صرح به لا تفسد ، وفي الثاني لإظهارها ولو صرح بها فقال : وامصيبتاه ؟ أو أدركوني فهو مفسد فهو بمنزلته ، وهنا معلوم أن قصده إعجاب الناس به ، ولو قال : اعجبوا من حسن صوتي وتحريري فيه أفسد ، وحصول الحروف لازم من التلحين ، ولا أرى ذلك يصدر ممن فهم معنى الصلاة والعبادة ، كما لا أرى تحرير النغم في الدعاء كما يفعله القراء في هذا الزمان يصدر ممن فهم معنى الدعاء والسؤال ، وما ذلك إلا نوع لعب فإنه لو قدر في الشاهد سائل حاجة من ملك أدى سؤاله وطلبه بتحرير النغم فيه من الرفع والخفض ، والتغريب في الرجوع كالتغني نسب ألبتة إلى قصد السخرية واللعب ; إذ مقام طلب الحاجة التضرع لا التغني .

قلت : وأغرب منه أنه تفرع على تطويل المكبرين حتى في مكة المشرفة أنه يزيد الإمام في تسبيحات الركوع والسجود ، ويقف في حالات الانتقالات انتظارا لفراغهم من التمطيطات ، فانقلب الأمر وانعكس الموضوع ، وبقي الإمام تابعا والمكبر هو المتبوع . وفي الهداية : ويصلي القائم خلف القاعد خلافا لمحمد ، والقاعد خلف قائم جائز اتفاقا قال محمد رحمه الله تعالى : لا يجوز لصحيح أن يأتم بمريض يصلي قاعدا وإن كان يركع ويسجد ، ويذهب إلى أن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم كان مخصوصا ألا ترى أنه صلي بعضه خلف أبي بكر ، وبعضه خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز اليوم هذا عند أحد من المسلمين كذا ذكره الطحاوي ، ولا ينافيه تجويز الشافعية بعض الصور إذ لم يثبت أن الصديق نوى الانتقال من الإمامة إلى المأمومية ، ومع الاحتمال لا يصح الاستدلال والله أعلم بالأحوال .

[ ص: 879 ]



الخدمات العلمية