الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله (تعالى): وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم ؛ قد اقتضى ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين؛ وجواز أخذ رأس مال نفسه منه بغير رضاه ; لأنه (تعالى) جعل اقتضاءه ومطالبته من غير شرط رضا المطلوب؛ وهذا يوجب أن من له على غيره دين فطالبه به؛ فله أخذه منه؛ شاء أم أبى؛ وبهذا المعنى ورد الأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قالت له هند: إن أبا سفيان رجل شحيح؛ لا يعطيني ما يكفيني وولدي؛ فقال: "خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف"؛ فأباح لها أخذ ما استحقته على أبي سفيان من النفقة من غير رضا أبي سفيان .

وفي الآية دلالة على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين؛ مع الإمكان ؛ كان ظالما؛ ودلالتها على ذلك من وجهين؛ أحدهما قوله (تعالى): وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم ؛ فجعل له المطالبة [ ص: 196 ] برأس المال؛ وقد تضمن ذلك أمر الذي عليه الدين بقضائه؛ وترك الامتناع من أدائه؛ فإنه متى امتنع منه كان له ظالما؛ ولاسم الظلم مستحقا؛ وإذا كان كذلك استحق العقوبة؛ وهي الحبس؛ والوجه الآخر من الدلالة عليه قوله (تعالى) في نسق التلاوة: لا تظلمون ولا تظلمون ؛ يعني - والله أعلم -: لا تظلمون بأخذ الزيادة؛ ولا تظلمون بالنقصان من رأس المال؛ فدل ذلك على أنه متى امتنع من أداء جميع رأس المال إليه كان ظالما له؛ مستحقا للعقوبة؛ واتفق الجميع على أنه لا يستحق العقوبة بالضرب ؛ فوجب أن يكون حبسا؛ لاتفاق الجميع على أن ما عداه من العقوبات ساقط عنه في أحكام الدنيا؛ وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما دلت عليه الآية؛ وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي قال: حدثنا عبد الله بن المبارك ؛ عن وبر بن أبي دليلة؛ عن محمد بن ميمون ؛ عن عمرو بن الشريد؛ عن أبيه؛ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته"؛ قال ابن المبارك : يحل عرضه: يغلظ له؛ وعقوبته: يحبس؛ وروى ابن عمر ؛ وجابر ؛ وأبو هريرة ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مطل الغني ظلم؛ وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل"؛ فجعل مطل الغني ظلما؛ والظالم لا محالة مستحق العقوبة؛ وهي الحبس؛ لاتفاقهم على أنه لم يرد غيره. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا معاذ بن أسد قال: أخبرنا النضر بن شميل قال: أخبرنا هرماس بن حبيب؛ رجل من أهل البادية؛ عن أبيه؛ عن جده قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بغريم لي؛ فقال لي: "الزمه"؛ ثم قال: "يا أخا بني تميم؛ ما تريد أن تفعل بأسيرك؟"؛ وهذا يدل على أن له حبس الغريم ; لأن الأسير يحبس؛ فلما سماه أسيرا له دل على أن له حبسه؛ وكذلك قوله: "لي الواجد يحل عرضه؛ وعقوبته"؛ والمراد بالعقوبة هنا الحبس; لأن أحدا لا يوجب غيره.

واختلف الفقهاء في الحال التي توجب الحبس ؛ فقال أصحابنا: إذا ثبت عليه شيء من الديون؛ من أي وجه ثبت؛ فإنه يحبس شهرين؛ أو ثلاثة؛ ثم يسأل عنه؛ فإن كان موسرا تركه في الحبس أبدا؛ حتى يقضيه؛ وإن كان معسرا أخلى سبيله؛ وذكر ابن رستم؛ عن محمد؛ عن أبي حنيفة أن المطلوب إذا قال: إني معسر؛ وأقام البينة على ذلك؛ أو قال: فسل عني؛ فلا يسأل عنه أحدا؛ وحبسه شهرين؛ أو ثلاثة؛ ثم يسأل عنه؛ إلا أن يكون معروفا بالعسر؛ فلا يحبسه؛ وذكر الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران قال: كان متأخرو أصحابنا؛ منهم محمد بن شجاع؛ يقولون: إن كل دين كان أصله من مال وقع في يدي المدين؛ كأثمان البياعات؛ والعروض؛ ونحوها؛ فإنه [ ص: 197 ] يحبسه به؛ وما لم يكن أصله من مال وقع في يده؛ مثل المهر؛ والجعل من الخلع ؛ والصلح من دم العمد؛ والكفالة؛ لم يحبسه به؛ حتى يثبت وجوده وملاؤه؛ وقال ابن أبي ليلى : يحبسه في الديون إذا أخبر أن عنده مالا؛ وقال مالك : لا يحبس الحر؛ ولا العبد في الدين؛ ولا يستبرأ أمره؛ فإن اتهم أنه قد خبأ مالا حبسه؛ وإن لم يجد له شيئا لم يحبسه؛ وخلاه؛ وقال الحسن بن حي: إذا كان موسرا حبس؛ وإن كان معسرا لم يحبس؛ وقال الشافعي : إذا ثبت عليه دين بيع ما ظهر؛ ودفع؛ ولم يحبس؛ فإن لم يظهر حبس؛ وبيع ما قدر عليه من ماله؛ فإن ذكر عسره قبلت منه البينة؛ بقوله (تعالى): وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ؛ وأحلفه مع ذلك بالله؛ ومنع غرماءه من لزومه.

قال أبو بكر : إنما قال أصحابنا: إنه يحبسه في أول ما ثبت عند القاضي دينه؛ لما دللنا عليه من الآية؛ والأثر؛ على كونه ظالما في الامتناع من قضاء ما ثبت عليه؛ وأنه مستحق للعقوبة متى امتنع من أداء ما وجب عليه؛ فالواجب بقاء العقوبة عليه حتى يثبت زوالها عنه بالإعسار؛ فإن قيل: إنما يكون ظالما إذا امتنع من أدائه مع الإمكان; لأن الله (تعالى) لا يذمه على ما لم يقدره عليه؛ ولم يمكنه منه؛ ولذلك شرط النبي - صلى الله عليه وسلم - الوجود في استحقاق العقوبة؛ بقوله: "لي الواجد يحل عرضه؛ وعقوبته"؛ وإذا كان شرط استحقاق العقوبة وجود المال الذي يمكنه أداؤه منه؛ فغير جائز حبسه وعقوبته؛ إلا بعد أن يثبت أنه واجد ممتنع من أداء ما وجب عليه؛ وليس ثبوت الدين عليه علما لإمكان أدائه على الدوام؛ إذ جائز أن يحدث الإعسار بعد ثبوت الدين؛ قيل له: أما الديون التي حصلت أبدالها في يده فقد علمنا يساره بأدائها يقينا؛ ولم نعلم إعساره بها؛ فوجب كونه باقيا على حكم اليسار؛ والوجود؛ حتى يثبت الإعسار؛ وأما ما كان لزمه منها من غير بدل حصل في يده يمكنه أداؤه منه؛ فإن دخوله في العقد الذي ألزمه ذلك اعتراف منه بلزوم أدائه؛ وتوجه المطالبة عليه بقضائه؛ ودعواه الإعسار به بمنزلة دعوى التأجيل للموسر؛ فهو غير مصدق عليه؛ ولذلك سوى أصحابنا بين الديون التي قد علم حصول أبدالها في يده؛ وبين ما لم تحصل في يده؛ إذ كان دخوله في العقد الموجب عليه ذلك الدين اعترافا منه بلزوم الأداء؛ وثبوت حق المطالبة للمطالب؛ وذلك لأن كل متعاقدين دخلا في عقد فدخولهما فيه اعتراف منهما بلزوم موجب العقد من الحقوق؛ وغير مصدق بعد العقد واحد منهما على نفي موجبه؛ ومن أجل ذلك قلنا: إن ذلك يقتضي اعترافا منهما بصحته؛ إذ كان ذلك [ ص: 198 ] مضمنا للزوم حقوقه؛ وفي تصديقه على فساده نفي ما لزمه بظاهر العقد؛ ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن مدعي الفساد منهما بعد وقوع العقد بينهما؛ وصحته في الظاهر ؛ غير مصدق عليه؛ وأن القول قول مدعي الصحة منهما؛ وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا من أن من ألزم نفسه دينا بعقد عقده على نفسه ؛ أنه يلزمه أداؤه؛ ومحكوم عليه بأنه موسر به؛ وغير مصدق على الإعسار المسقط عنه المطالبة؛ كما لا يصدق على التأجيل بعد ثبوته عليه حالا.

وإنما قال أصحابنا: إنه يحبسه في أول ما يرفعه إلى القاضي؛ إذا طلب ذلك الطالب؛ ولا يسأل عنه؛ من قبل أنه توجهت عليه المطالبة بأدائه؛ ومحكوم له باليسار في قضائه؛ فالواجب أن يستبرئ أمره بديا؛ إذ جائز أن يكون له مال قد خبأه لا يقف عليه غيره؛ فلا يوقف بذلك على إعساره؛ فينبغي له أن يحبسه استظهارا لما عسى أن يكون عنده؛ إذ كان في الأغلب أنه إن كان عنده شيء آخر أضجره الحبس؛ وألجأه إلى إخراجه؛ فإذا حبسه هذه المدة فقد استظهر في الغالب؛ فحينئذ يسأل عنه; لأنه جائز أن يكون هناك من يعلم يساره سرا؛ فإذا ثبت عنده إعساره خلاه من الحبس؛ وقد روي عن شريح أنه كان يحبس المعسر في غير الربا من الديون؛ فقال له: معسر قد حبسه: قال الله (تعالى): وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ؛ فقال شريح : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ؛ والله لا يأمرنا بشيء ثم يعذبنا عليه؛ وقد قدمنا ذكر مذهب شريح في تأويل الآية؛ وأن قوله (تعالى): وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ؛ مقصور على الربا؛ دون غيره؛ وأن غيره من الديون لا يختلف في الحبس فيها الموسر والمعسر؛ ويشتبه أن يكون ذهب في ذلك إلى أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الإعسار على الحقيقة؛ إذ جائز أن يظهر الإعسار؛ وحقيقة أمره اليسار؛ فاقتصر بحكم الإنظار على رأس مال الربا؛ الذي نزل به القرآن؛ وحمل ما عداه على موجب عقد المداينة من لزوم القضاء؛ وتوجه المطالبة عليه بالأداء؛ وقد بينا وجه فساد هذا القول بما قد دللنا عليه من مقتضى عموم اللفظ لسائر الديون؛ ومع ذلك فلو كان نص التنزيل واردا في الربا؛ دون غيره؛ لكان سائر الديون بمنزلته قياسا عليه؛ إذ لا فارق في حال اليسار بينهما في صحة لزوم المطالبة بهما؛ ووجوب أدائهما؛ فوجب ألا يختلفا في حال الأداء في سقوط الحبس فيها؛ دونه.

فأما قوله (تعالى): إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ؛ واحتجاج شريح به في حبس المطلوب؛ فإن الآية إنما هي في الأعيان الموجودة في يده لغيره؛ فعليه أداؤها؛ وأما الديون [ ص: 199 ] المضمونة في ذمته؛ فإنما المطالبة بها معلقة بإمكان أدائها؛ فمن كان معسرا فإن الله (تعالى) لم يكلفه إلا ما في إمكانه؛ قال الله (تعالى): لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا ؛ فإذا لم يكن مكلفا لأدائها لم يجز أن يحبس بها؛ فإن قيل: إن الدين من الأمانات؛ لقوله (تعالى): فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ؛ وإنما يريد به الدين المذكور في قوله (تعالى): يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ؛ قيل له: إن كان الدين مرادا بقوله (تعالى): إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ؛ فإن الأمر بذلك توجه إليه على شريطة الإمكان؛ لما وصفنا من أن الله (تعالى) لا يكلف أحدا ما لا يقدر عليه؛ ولا يتسع لفعله؛ وهو محكوم له من ظاهر إعساره أنه غير قادر على أدائه؛ ولم يكن شريح ؛ ولا أحد من السلف يخفى عليهم أن الله (تعالى) لا يكلف أحدا ما لا يقدر عليه؛ بل كانوا عالمين بذلك؛ ولكنه ذهب عندي - والله أعلم - إلى أنه لم يتيقن وجود ذلك؛ ويجوز أن يكون قادرا على أدائه مع ظهور إعساره؛ فلذلك حبسه.

واختلف أهل العلم في الحاكم ؛ إذا ثبت عنده إعساره وأطلقه من الحبس؛ هل يحول بين الطالب؛ وبين لزومه ؛ فقال أصحابنا: للطالب أن يلزمه؛ وذكر ابن رستم؛ عن محمد قال: والملزوم في الدين لا يمنع من دخول منزله للغذاء؛ والغائط؛ والبول؛ فإن أعطاه الذي يلزمه: الغذاء؛ وموضع الخلاء؛ فله أن يمنعه من إتيان منزله؛ وقال غيرهم؛ منهم مالك ؛ والشافعي : ليس له أن يلزمه؛ وقال الليث بن سعد : يؤاجر الحر المعسر؛ فيقضى دينه من أجرته؛ ولا نعلم أحدا قال بمثل قوله إلا الزهري ؛ فإن الليث بن سعد روى عن الزهري قال: يؤاجر المعسر بما عليه من الدين حتى يقضى عنه؛ والذي يدل على أن ظهور الإعسار لا يسقط عنه اللزوم؛ والمطالبة؛ والاقتضاء ؛ حديث هشام بن عروة ؛ عن أبيه؛ عن عائشة ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى من أعرابي بعيرا إلى أجل؛ فلما حل الأجل جاءه يتقاضاه؛ فقال: "جئتنا وما عندنا شيء؛ ولكن أقم حتى تأتي الصدقة"؛ فجعل الأعرابي يقول: وا غدراه؛ فهم به عمر ؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "دعه فإن لصاحب الحق مقالا"؛ فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس عنده شيء؛ ولم يمنعه الاقتضاء؛ وقال: "إن لصاحب الحق مقالا"؛ فدل ذلك على أن الإعسار بالدين غير مانع اقتضاءه؛ ولزومه به؛ وقوله: "أقم حتى تأتي الصدقة"؛ يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما اشترى البعير للصدقة؛ لا لنفسه; لأنه لو كان اشتراه لنفسه لم يكن ليقضيه من إبل الصدقة; لأنه لم يكن تحل له الصدقة؛ فهذا يدل على أن [ ص: 200 ] من اشترى لغيره يلزمه ثمن ما اشترى؛ وأن حقوق العقد متعلقة به؛ دون المشترى له; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنعه اقتضاءه؛ ومطالبته به؛ وهو في معنى الحديث الذي رواه أبو رافع ؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكرا؛ ثم قضاه من إبل الصدقة ; لأن السلف كان دينا على مال الصدقة.

وروي في خبر آخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لصاحب الحق اليد؛ واللسان"؛ رواه محمد بن الحسن ؛ وقال: " في اليد اللزوم؛ وفي اللسان الاقتضاء "؛ وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال: أخبرنا محمد بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا إبراهيم بن حمزة قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد؛ عن عمرو بن أبي عمر ؛ عن عكرمة ؛ عن ابن عباس ؛ أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير؛ فقال له: والله ما عندي شيء أقضيكه اليوم؛ قال: والله لا أفارقك حتى تقضيني؛ أو تأتيني بحميل يتحمل عنك؛ قال: والله ما عندي قضاء؛ ولا أجد من يحتمل عني؛ قال: فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله; إن هذا لزمني فاستنظرته شهرا واحدا؛ فأبى حتى أقضيه؛ أو آتيه بحميل؛ فقلت: والله ما أجد حميلا؛ ولا عندي قضاء اليوم؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل تنظره شهرا واحدا؟"؛ قال: لا؛ قال: "أنا أحمل بها"؛ فتحمل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فذهب الرجل؛ فأتاه بقدر ما وعده؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أين أصبت هذا الذهب؟"؛ قال: من معدن؛ قال: "اذهب؛ فلا حاجة لنا فيها؛ ليس فيها خير"؛ فقضى عنه رسول الله؛ وفي هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمنعه من لزومه؛ مع حلفه بالله: ما عنده قضاء.

وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال: حدثنا عبد الله بن علي بن الجارود قال: حدثنا إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا ابن أبي عبيدة قال: حدثنا أبي؛ عن الأعمش ؛ عن أبي صالح ؛ عن أبي سعيد الخدري قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه تمرا كان عليه؛ وشدد عليه الأعرابي؛ حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني؛ فانتهره الصحابة؛ فقالوا له: ويحك؛ أتدري من تكلم؟ فقال لهم: إني طالب حق؛ فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هلا مع صاحب الحق كنتم؟"؛ ثم أرسل إلى خولة بنت قيس؛ فقال لها: "إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك"؛ فقالت: نعم؛ بأبي أنت وأمي يا رسول الله؛ فأقرضته؛ فقضى الأعرابي؛ وأطعمه؛ فقال: أوفيتنا؛ أوفى الله لك؛ فقال: "أولئك خيار الناس؛ إنها لا قدست أمة لا يؤخذ للضعيف منها حقه غير متعتع"؛ فلم يكن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يقضيه؛ ولم ينكر على الأعرابي مطالبته؛ واقتضاءه بذلك؛ بل أنكر على الصحابة انتهارهم إياه؛ وقال: "هلا مع صاحب الحق كنتم؟"؛ وهذا يوجب ألا يكون منظرا بنفس الإعسار دون أن ينظره الطالب؛ ويدل عليه [ ص: 201 ] أيضا ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن العباس المؤدب قال: حدثنا عفان بن مسلم قال: حدثنا عبد الوارث عن محمد بن جحادة ؛ عن ابن بريدة ؛ عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أنظر معسرا فله صدقة؛ ومن أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة"؛ فقلت: يا رسول الله; سمعتك تقول: "من أنظر معسرا فله صدقة"؛ ثم سمعتك تقول: "له بكل يوم صدقة"؛ قال: "من أنظر معسرا قبل أن يحل الدين؛ فله صدقة؛ ومن أنظره إذا حل الدين فله بكل يوم صدقة"؛ وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا محمد بن علي بن عبد الملك بن السراج قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي قال: حدثنا عيسى بن يونس قال: حدثنا سعيد بن حجنة الأسدي قال: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ؛ أنه سمع أبا اليسر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أنظر معسرا؛ أو وضع له؛ أظله الله يوم لا ظل إلا ظله"؛ فقوله في الحديث الأول: "من أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة"؛ يوجب ألا يكون منظرا بنفس الإعسار دون إنظار الطالب إياه; لأنه لو كان منظرا بغير إنظاره لما صح القول بأن "من أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة"؛ إذ غير جائز أن يستحق الثواب إلا على فعله؛ فأما من قد صار منظرا بغير فعله فإنه يستحيل أن يستحق الثواب بالإنظار؛ وحديث أبي اليسر يدل على ذلك أيضا من وجهين؛ أحدهما ما أخبر عنه من استحقاق الثواب بإنظاره؛ والثاني أنه جعل الإنظار بمنزلة الحط؛ ومعلوم أن الحط لا يقع إلا بفعله؛ فكذلك الإنظار؛ وهذا كله يدل على أن قوله (تعالى): فنظرة إلى ميسرة ؛ ينصرف على أحد وجهين؛ إما أن يكون وقوع الإنظار هو تخليته من الحبس؛ وترك عقوبته؛ إذ كان غير مستحق لها; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل مطل الغني ظلما؛ فإذا ثبت إعساره فهو غير ظالم بترك القضاء؛ فأمر الله (تعالى) بإنظاره من الحبس؛ فلا يوجب ذلك ترك لزومه؛ أو أن يكون المراد الندب؛ والإرشاد إلى إنظاره بترك لزومه؛ ومطالبته؛ فلا يكون منظرا إلا بنظرة الطالب؛ بدلالة الأخبار التي أوردناها.

فإن قال قائل: اللزوم بمنزلة الحبس لا فارق بينهما; لأنه في الحالين ممنوع من التصرف؛ قيل له: ليس كذلك; لأن اللزوم لا يمنعه التصرف؛ فإنما معناه أن يكون معه من قبل الطالب من يراعي أمره في كسبه؛ وما يستفيده؛ فيترك له مقدار القوت؛ ويأخذ الباقي قضاء من دينه؛ وليس في ذلك إيجاب حبس؛ ولا عقوبة؛ وروى مروان بن معاوية قال: حدثنا أبو مالك الأشجعي ؛ عن ربعي بن حراش؛ عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يقول لعبد [ ص: 202 ] من عباده: (ما عملت؟)"؛ قال: ما عملت لك كثير عمل أرجوك به من صلاة؛ ولا صوم؛ غير أنك كنت أعطيتني فضلا من مال فكنت أخالط الناس؛ فأيسر على الموسر؛ وأنظر المعسر؛ فقال الله - عز وجل -: (نحن أحق بذلك منك؛ تجاوزوا عن عبدي)؛ فغفر له"؛ فقال ابن مسعود : هكذا سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث أيضا يدل على مثل ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من أن الإنظار لا يقع بنفس الإعسار; لأنه جمع بين إنظار المعسر؛ والتيسير على الموسر؛ وذلك كله مندوب إليه؛ غير واجب؛ واحتج من حال بينه وبين لزومه إذا أعسر؛ وجعله منظرا بنفس الإعسار؛ بما رواه الليث بن سعد ؛ عن بكير؛ عن عياض بن عبد الله ؛ عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رجلا أصيب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها؛ فكثر دينه؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "تصدقوا عليه"؛ فتصدق الناس عليه؛ فلم يبلغ ذلك وفاء دينه؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا ما وجدتم؛ ليس لكم إلا ذلك"؛ فاحتج القائل بما وصفنا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ليس لكم إلا ذلك ؛ وأن ذلك يقتضي نفي اللزوم؛ فيقال له: معلوم أنه لم يرد سقوط ديونهم; لأنه لا خلاف أنه متى وجد كان الغرماء أحق بما فضل عن قوته؛ وإذا لم ينف بذلك بقاء حقوقهم في ذمته؛ فكذلك لا يمنع بقاء لزومهم له ليستوفوا ديونهم مما يكسبه فاضلا عن قوته؛ وهذا هو معنى اللزوم; لأنا لا نختلف في ثبوت حقوقهم فيما يكسبه في المستقبل؛ فقد اقتضى ذلك ثبوت حق اللزوم لهم؛ ولم ينتف ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لكم إلا ذلك"؛ كما لم ينتف بقاء حقوقهم فيما يستفيده.

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأخبار التي ذكرنا؛ من إنظار المعسر؛ وما ذكر من ترغيب الطالب في إنظاره؛ يدل على جواز التأجيل في الديون الحالة الواجبة عن الغصوب؛ والبيوع؛ وزعم الشافعي أنه إذا كان حالا في الأصل لا يصح التأجيل به؛ وذلك خلاف الآثار التي قدمنا; لأنها قد اقتضت جواز تأجيله؛ وبين ذلك حديث ابن بريدة فيمن أجل قبل أن يحل أو بعدما حل؛ وقد تقدم سنده؛ وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا أبو الأحوص ؛ عن سعيد بن مسروق ؛ عن الشعبي ؛ عن سمعان؛ عن سمرة بن جندب قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ههنا أحد من بني فلان؟"؛ فلم يجبه أحد؛ ثم قال: "ههنا أحد من بني فلان؟"؛ فلم يجبه أحد؛ ثم قال: "ههنا أحد من بني فلان؟"؛ فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منعك أن تجيبني في المرتين الأوليين؟ إني لم أنوه بكم إلا خيرا؛ إن صاحبكم مأسور بدينه"؛ فلقد رأيته أدى عنه حتى [ ص: 203 ] ما أحد يطالبه بشيء؛ وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثني سليمان بن داود المهري النهدي قال: حدثنا وهب قال: حدثني سعيد بن أبي أيوب أنه سمع أبا عبد الله القرشي يقول: سمعت أبا بردة بن أبي موسى الأشعري يقول عن أبيه؛ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه عبد؛ بعد الكبائر التي نهاه الله عنها؛ أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء"؛ وفي هذين الحديثين دليل على أن المطالبة؛ واللزوم؛ لا يسقطان عن المعسر؛ كما لم تسقط عنه المطالبة بالموت؛ وإن لم يدع له وفاء .

فإن قيل: لا يخلو هذا الرجل المدين؛ إذا مات مفلسا؛ من أن يكون مفرطا في قضاء دينه؛ أو غير مفرط؛ فإن كان مفرطا فإنما هو مطالب عند الله (تعالى) بتفريطه؛ كسائر الذنوب التي لم يتب منها؛ وإن كان غير مفرط فالله (تعالى) لا يؤاخذه به; لأن الله (تعالى) لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه؛ قيل له: إنما ذلك فيمن فرط في قضاء دينه؛ ثم لم يتب من تفريطه حتى مات مفلسا؛ فيكون مؤاخذا به؛ وهذا حكم المعسر بدين الآدمي; لأنا لا نعلم توبته من تفريطه؛ فواجب أن يكون مطالبا به في الدنيا؛ كما كان مؤاخذا به عند الله (تعالى).

فإن قيل: فينبغي أن تفرقوا بين المفرط في قضاء دينه؛ المصر على تفريطه؛ وبين من لم يفرط أصلا؛ أو فرط ثم تاب من تفريطه؛ فتوجبوا له لزوم من فرط ولم يتب؛ ولا تجعلوا له ذلك فيمن لم يفرط؛ أو فرط ثم تاب؛ قيل له: لو وقفنا على حقيقة توبته من تفريطه؛ أو علمنا أنه لم يكن مفرطا في قضائه؛ لخالفنا بين حكمه وحكم من ظهر تفريطه في باب اللزوم؛ كما اختلف حكمهما عند الله (تعالى)؛ ولكنا لا نعلم أنه غير مفرط في الحقيقة؛ لجواز أن يكون له مال مخبوء؛ وقد أظهر الإعسار؛ وكذلك المظهر لتوبته من تفريطه؛ مع ظهور عسرته؛ جائز أن يكون موسرا بأداء دينه؛ ولا تكون لما أظهره حقيقة؛ وإذا كان كذلك فحكم اللزوم والمطالبة قائم عليه؛ كما تثبت عليه المطالبة لله (تعالى) بعد موته؛ وحديث أبي قتادة أيضا يدل على ذلك؛ وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر ؛ عن الزهري ؛ عن أبي سلمة عن جابر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي على رجل مات وعليه دين؛ فأتي بميت فقال: "أعليه دين؟"؛ فقالوا: نعم؛ ديناران؛ فقال: "صلوا على صاحبكم"؛ فقال أبو قتادة الأنصاري: هما علي يا رسول الله؛ قال: فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فتح الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه؛ فمن ترك دينا فعلي قضاؤه؛ ومن ترك مالا فلورثته"؛ فلو لم تكن [ ص: 204 ] المطالبة قائمة عليه إذا مات مفلسا؛ كان لا يترك الصلاة عليه إذا مات مفلسا; لأنه كان يكون بمنزلة من لا دين عليه؛ وفي هذا دليل على أن الإعسار لا يسقط عنه اللزوم؛ والمطالبة؛ وقد روى إسماعيل بن المهاجر؛ عن عبد الملك بن عمير قال: كان علي بن أبي طالب إذا أتاه رجل بغريمه قال: هات بينة على مال أحبسه؛ فإن قال: فإني إذا ألزمه؛ قال: وما منعك من لزومه؟ وأما قول الزهري والليث بن سعد ؛ في إجازتهما الحد واستيفاء الدين من أجرته؛ فخلاف الآية؛ والآثار المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أما الآية فقوله (تعالى): وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ؛ ولم يقل: "فليؤاجر بما عليه"؛ وسائر الأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء منها إجارته؛ وإنما فيها لزومه أو تركه؛ وحديث أبي سعيد الخدري : "ليس لكم إلا ذلك"؛ حين لم يجدوا له غير ما أخذوا.

التالي السابق


الخدمات العلمية