الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل العام على ثلاثة أقسام: الأول: الباقي على عمومه، قال القاضي جلال الدين البلقيني: ومثاله عزيز، إذ ما من عام إلا ويتخيل فيه التخصيص، فقوله: يا أيها الناس اتقوا ربكم قد يخص منه غير المكلف. وحرمت عليكم الميتة خص منه حالة الاضطرار وميتة السمك والجراد. وحرم الربا - خص منه العرايا. وذكر الزركشي في البرهان: أنه كثير في القرآن، وأورد منه: " إن الله بكل شيء عليم " . إن الله لا يظلم الناس شيئا . ولا يظلم ربك أحدا .. الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم . هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة . الله الذي جعل لكم الأرض قرارا . قلت: هذه الآيات كلها في غير الأحكام الفرعية، فالظاهر أن مراد البلقيني أنه عزيز في الأحكام الفرعية. ولقد استخرجت من القرآن بعد الفكر آية فيها. وهي قوله: حرمت عليكم أمهاتكم . فإنه لا خصوص فيها. الثاني: العام المراد به الخصوص. [ ص: 158 ] الثالث: العام المخصوص، وللناس بينهما فروق: منها: أن الأول لم يرد شموله لجميع الأفراد، لا من جهة تناول اللفظ، ولا من جهة الحكم، بل هو ذو أفراد استعمل في فرد منها. والثاني أريد عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لها، لا من جهة الحكم. ومنها أن الأول مجاز قطعا لنقل اللفظ عن موضوعه الأصلي، بخلاف الثاني. فإن فيه مذاهب أصحها أنه حقيقة، وعليه أكثر الشافعية وكثير من الحنفية وجميع الحنابلة، ونقله إمام الحرمين عن جميع الفقهاء. وقال الشيخ أبو حامد: إنه مذهب الشافعي وأصحابه، وصححه السبكي. لأن تناول اللفظ للبعض الباقي بعد التخصيص كتناوله بلا تخصيص، وذلك التناول حقيقي اتفاقا، فليكن هذا التناول حقيقيا أيضا. ومنها أن قرينة الأول عقلية، والثاني لفظية. ومنها أن قرينة الأول لا تنفك عنه، وقرينة الثاني تنفك عنه. ومنها أن الأول يصح أن يراد به واحد اتفاقا، وفي الثاني خلاف. ومن أمثلة العام المراد به الخصوص قوله تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا . والقائل واحد نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزاعة، كما أخرج ابن مردويه من حديث أبي رافع، لقيامه مقام كثير في تثبيطه المؤمنين عن ملاقاة أبي سفيان. قال الفارسي: ومما يقوي أن المراد به واحد: إنما ذلكم الشيطان . فوقعت الإشارة بقوله: " ذلكم " إلى واحد بعينه، ولو كان المعني به جمعا لقال: إنما أولئكم الشيطان، فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ. ومنها قوله تعالى: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله . أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجمعه ما في الناس من الخصال الحميدة. [ ص: 159 ] ومنها قوله: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس . أخرج ابن جرير من طريق الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: من حيث أفاض الناس ، قال إبراهيم: ومن الغريب قراءة سعيد بن جبير: من حيث أفاض الناسي قال في المحتسب: يعني آدم، لقوله: فنسي ولم نجد له عزما . ومنها قوله: فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ، أي جبريل، كما في قراءة ابن مسعود. وأما المخصوص فأمثلته في القرآن كثيرة جدا، وهي أكثر من المنسوخ، إذ ما من عام فيه إلا وقد خص، ثم المخصص له إما متصل، وإما منفصل، فالمتصل خمسة وقعت في القرآن: أحدها: الاستثناء، نحو: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا . النور: 4. والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . ومن يفعل ذلك يلق أثاما ... إلى قوله: إلا من تاب وآمن . والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم . كل شيء هالك إلا وجهه . الثاني: الوصف، نحو: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن . الثالث: الشرط، نحو: والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا . كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية . الرابع: الغاية، نحو: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ولا تقربوهن حتى [ ص: 160 ] يطهرن . ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله . وكلوا واشربوا حتى يتبين الآية. الخامس: بدل البعض من الكل نحو: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا .. والمخصص آية أخرى في محل آخر، أو حديث، أو إجماع، أو قياس. فمن أمثلة ما خص بالقرآن قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء .، خص بقوله: إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها . وبقوله: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن . وقوله: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير . خص من الميتة السمك بقوله: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة . ومن الدم الجامد بقوله: أو دما مسفوحا . وقوله: وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا . خص بقوله: فلا جناح عليهما فيما افتدت به . وقوله: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة . خص بقوله: فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب . وقوله: فانكحوا ما طاب لكم من النساء . خص بقوله: حرمت عليكم أمهاتكم . ومن أمثلة ما خص بالحديث قوله تعالى: وأحل الله البيع . خص منه البيوع الفاسدة، وهي كثيرة، بالسنة. وحرم الربا. خص العرايا منه بالسنة. وآيات المواريث خص منها القاتل والمخالف في الدين بالسنة. وآية تحريم الميتة خص منها الجراد بالسنة. وآية ثلاثة قروء خص منها الأمة بالسنة. وقوله: ماء طهورا، خص منه المتغير بالسنة. وقوله: والسارق والسارقة خص منهما من سرق دون ربع دينار بالسنة. [ ص: 161 ] ومن أمثلة ما خص بالإجماع آية المواريث، خص منها الرقيق فلا يرث بالإجماع، ذكره مكي. ومن أمثلة ما خص بالقياس آية الزنا: فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، خص منه العبد بالقياس على الأمة المنصوصة في قوله: فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، المخصص لعموم الآية، ذكره مكي أيضا.

التالي السابق


الخدمات العلمية