الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 501 ] وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا له - : يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة ، وهو أحد قسمي المتواتر . ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع ، كخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما الأعمال بالنيات ، وخبر ابن عمر رضي الله عنهما : نهى عن بيع الولاء وهبته ، وخبر أبي هريرة : لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ، وكقوله : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، وأمثال ذلك . وهو نظير خبر الذي أتى مسجد قباء وأخبر أن [ ص: 502 ] القبلة تحولت إلى الكعبة ، فاستداروا إليها .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل رسله آحادا ، ويرسل كتبه مع الآحاد ، ولم يكن المرسل إليهم يقولون لا نقبله لأنه خبر واحد ! وقد قال تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله [ التوبة : 33 ] . فلا بد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه ، لئلا تبطل حججه وبيناته .

ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته ، وبين حاله للناس . قال سفيان بن عيينة : ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث . وقال عبد الله بن المبارك : لو هم رجل في البحر أن يكذب في الحديث ، لأصبح والناس يقولون : فلان كذاب .

وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب - ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلا بالحديث ، والبحث عن سيرة الرواة ، ليقف على أحوالهم وأقوالهم ، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل ، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحدا في كلمة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك . وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم ، فهم يزك [ ص: 503 ] الإسلام وعصابة الإيمان ، وهم نقاد الأخبار ، وصيارفة الأحاديث . فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم ، وعرف حالهم ، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم - : ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه .

ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم من العلم بأحوال نبيهم وسيرته وأخباره ، ما ليس لغيرهم به شعور ، فضلا أن يكون معلوما لهم أو مظنونا . كما أن النحاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم ، وعند الأطباء من كلام بقراط وجالينوس ما ليس عند غيرهم ، وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره ، فلو سألت البقال عن أمر العطر ، أو العطار عن البز ، ونحو ذلك ! ! لعد ذلك جهلا كثيرا .

ولكن النفاة قد جعلوا قوله تعالى : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] : مستندا لهم في رد الأحاديث الصحيحة ، فكلما جاءهم حديث يخالف قواعدهم وآراءهم ، وما وضعته خواطرهم وأفكارهم - ردوه بـ " ليس كمثله شيء تلبيسا منهم وتدليسا على من هو أعمى قلبا منهم ، وتحريفا لمعنى الآي عن مواضعه .

ففهموا من أخبار الصفات ما لم يرده الله ولا رسوله ، ولا فهمه أحد من أئمة الإسلام ، أنه يقتضي إثباتها التمثيل بما للمخلوقين ! ثم استدلوا على بطلان ذلك بـ " ليس كمثله شيء تحريفا للنصين ! ! ويصنفون الكتب ، ويقولون : هذا أصول دين الإسلام الذي أمر الله به وجاء من عنده ، ويقرءون كثيرا من القرآن ويفوضون معناه إلى الله تعالى ، من غير تدبر لمعناه الذي بينه الرسول ، وأخبر أنه معناه الذي أراده الله .

[ ص: 504 ] وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب الأول على هذه الصفات الثلاث ، وقص ذلك علينا من خبرهم لنعتبر وننزجر عن مثل طريقتهم . فقال تعالى : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [ البقرة : 75 ] إلى أن قال : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون [ البقرة : 78 ] . والأماني : التلاوة المجردة ، ثم قال تعالى : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون [ البقرة : 79 ] . فذمهم على نسبة ما كتبوه إلى الله ، وعلى اكتسابهم بذلك ، فكلا الوصفين ذميم : أن ينسب إلى الله ما ليس من عنده ، وأن يأخذ بذلك عوضا من الدنيا مالا أو رياسة . نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل ، في القول والعمل ، بمنه وكرمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية