الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) وفي المراد بالكتاب قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : المراد منه الكتاب المحفوظ في العرش وعالم السماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام ، كما قال عليه السلام : جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن المراد منه القرآن ، وهذا أظهر لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السابق ، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن ، فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول : كيف قال تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب ، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم ، وليس فيه أيضا تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع ؟ [ ص: 178 ] والجواب : أن قوله : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) يجب أن يكون مخصوصا ببيان الأشياء التي يجب معرفتها ، والإحاطة بها وبيانه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن لفظ التفريط لا يستعمل نفيا وإثباتا إلا فيما يجب أن يبين لأن أحدا لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه ، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن جميع آيات القرآن أو الكثير منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله ، وإذا كان هذا التقييد معلوما من كل القرآن كان المطلق ههنا محمولا على ذلك المقيد .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع .

                                                                                                                                                                                                                                            فنقول : أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه ؛ لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه . فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل ، فلا حاجة إليها ، وأما تفاصيل علم الفروع فنقول : للعلماء ههنا قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنهم قالوا إن القرآن دل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة ، فكل ما دل عليه أحد الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجودا في القرآن ، وذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة :

                                                                                                                                                                                                                                            المثال الأول : روي أن ابن مسعود كان يقول : ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه ، يعني الواشمة ، والمستوشمة ، والواصلة ، والمستوصلة ، وروي أن أمرأة قرأت جميع القرآن ، ثم أتته فقالت : يا ابن أم عبد ، تلوت البارحة ما بين الدفتين ، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة ، فقال : لو تلوتيه لوجدتيه ، قال الله تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه ) [ الحشر : 7 ] وإن مما أتانا به رسول الله أنه قال : لعن الله الواشمة والمستوشمة وأقول : يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك لأنه تعالى قال في سورة النساء : ( وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله ) [ النساء : 117 ، 118 ] فحكم عليه باللعن ، ثم عدد بعده قبائح أفعاله وذكر من جملتها قوله : ( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) [ النساء : 119 ] وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن .

                                                                                                                                                                                                                                            المثال الثاني : ذكر أن الشافعي رحمه الله كان جالسا في المسجد الحرام فقال : " لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى " فقال رجل : ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور ؟ فقال : " لا شيء عليه " فقال : أين هذا في كتاب الله ؟ فقال : قال الله تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه ) ثم ذكر إسنادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ثم ذكر إسنادا إلى عمر رضي الله عنه أنه قال : للمحرم قتل الزنبور . قال الواحدي : فأجابه من كتاب الله مستنبطا بثلاث درجات ، وأقول : ههنا طريق آخر أقرب منه ، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة ، قال تعالى : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) [ البقرة : 286 ] وقال : ( ولا يسألكم أموالكم ) [ محمد : 36 ] وقال : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) [ النساء : 29 ] فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة ، وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء ، وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الطريق الذي ذكره الشافعي : فهو تمسك بالعموم على أربع درجات : أولها : التمسك بعموم قوله [ ص: 179 ] ( وما آتاكم الرسول فخذوه ) [ الحشر : 7 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وأحد الأمور الداخلة تحت هذا : أمر النبي عليه السلام بمتابعة الخلفاء الراشدين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : التمسك بعموم قوله عليه الصلاة والسلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : بيان أن عمر رضي الله عنه كان من الخلفاء الراشدين .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : الرواية عن عمر أنه لم يوجب في هذه المسألة شيئا ، فثبت أن الطريق الذي ذكرناه أقرب .

                                                                                                                                                                                                                                            المثال الثالث : قال الواحدي : روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : اقض بيننا بكتاب الله فقال عليه السلام : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف ، وبالرجم على المرأة إن اعترفت . قال الواحدي : وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب ، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله .

                                                                                                                                                                                                                                            وأقول : هذا المثال حق ، لأنه تعالى قال : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) [ النحل : 44 ] وكل ما بينه الرسول عليه السلام كان داخلا تحت هذه الآية ، فثبت بهذه الأمثلة أن القرآن لما دل على أن الإجماع حجة ، وأن خبر الواحد حجة ، وأن القياس حجة ، فكل حكم ثبت بطريق من هذه الطرق الثلاثة ، كان في الحقيقة ثابتا بالقرآن ، فعند هذا يصح قوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) هذا تقرير هذا القول ، وهو الذي ذهب إلى نصرته جمهور الفقهاء . ولقائل أن يقول : حاصل هذا الوجه أن القرآن لما دل على خبر الواحد والقياس حجة ، فكل حكم ثبت بأحد هذين الأصلين كان في الحقيقة قد ثبت بالقرآن إلا أنا نقول : حمل قوله : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) على هذا الوجه لا يجوز لأن قوله : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ذكر في معرض تعظيم هذا الكتاب والمبالغة في مدحه والثناء عليه ، ولو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لم يحصل منه ما يوجب التعظيم ، وذلك لأنا لو فرضنا أن الله تعالى قال : اعملوا بالإجماع وخبر الواحد والقياس ، كان المعنى الذي ذكروه حاصلا من هذا اللفظ والمعنى الذي يمكن تحصيله من هذا اللفظ القليل لا يمكن جعله واجبا لمدح القرآن والثناء عليه لسبب اشتمال القرآن عليه ، لأن هذا إنما يوجب المدح العظيم والثناء التام لو لم يمكن تحصيله بطريق آخر أشد اختصارا منه ، فأما لما بينا أن هذا القسم المقصود يمكن حمله وتحصيله باللفظ المختصر الذي ذكرناه علمنا أنه لا يمكن ذكره في تعظيم القرآن ، فثبت أن هذه الآية مذكورة في معرض تعظيم القرآن ، وثبت أن المعنى الذي ذكروه لا يفيد تعظيم القرآن ، فوجب أن يقال ، إنه لا يجوز حمل هذه الآية على هذا المعنى ، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا القول .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : في تفسير هذه الآية قول من يقول : القرآن واف ببيان جميع الأحكام ، وتقريره أن الأصل براءة الذمة في حق جميع التكليف ، وشغل الذمة لا بد فيه من دليل منفصل والتنصيص على أقسام ما لم يرد فيه التكليف ممتنع ، لأن الأقسام التي لم يرد التكليف فيها غير متناهية ، والتنصيص على ما لا نهاية له محال بل التنصيص إنما يمكن على المتناهي مثلا لله تعالى ألف تكليف على العباد ، وذكره في القرآن وأمر محمدا عليه السلام بتبليغ ذلك الألف إلى العباد ، ثم قال بعده ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) فكان معناه أنه ليس لله على الخلق بعد ذلك الألف تكليف آخر ، ثم أكد هذه الآية بقوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) [ المائدة : 3 ] وبقوله : ( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) [ الأنعام : 59 ] فهذا تقرير مذهب هؤلاء ، والاستقصاء فيه إنما يليق بأصول الفقه ، والله أعلم . [ ص: 180 ] ولنرجع الآن إلى التفسير ، فنقول : قوله : ( من شيء ) قال الواحدي " من " زائدة كقوله : ما جاء لي من أحد . وتقريره ما تركنا في الكتاب شيئا لم نبينه . وأقول : كلمة " من " للتبعيض فكان المعنى ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج المكلف إليه ، وهذا هو نهاية المبالغة في أنه تعالى ما ترك شيئا مما يحتاج المكلف إلى معرفته في هذا الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية