الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم )

                                                                                                                                                                                                                                            فيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في وجه النظم قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى بين من حال الكفار أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث كأن قلوبهم قد صارت ميتة عن قبول الإيمان بقوله : ( إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ) فذكر هذه الآية تقريرا لذلك المعنى الثاني أنه تعالى لما ذكر في قوله : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) في كونها دالة على كونها تحت تدبير مدبر قديم وتحت تقدير مقدر حكيم ، وفي أن عناية الله محيطة بهم ، ورحمته واصلة إليهم ، قال بعده والمكذبون لهذه الدلائل والمنكرون لهذه العجائب صم لا يسمعون كلاما البتة ، بكم لا ينطقون بالحق ، خائضون في ظلمات الكفر ، غافلون عن تأمل هذه الدلائل .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 182 ] المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال ليس إلا من الله تعالى . وتقريره أنه تعالى وصفهم بكونهم صما وبكما وبكونهم في الظلمات وهو إشارة إلى كونهم عميا فهو بعينه نظير قوله في سورة البقرة ( صم بكم عمي ) [ البقرة : 18 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) وهو صريح في أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى . قالت المعتزلة : الجواب عن هذا من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : قال الجبائي معناه أنه تعالى يجعلهم صما وبكما يوم القيامة عند الحشر . ويكونون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صما وبكما في الظلمات ، ويضلهم بذلك عن الجنة وعن طريقها ويصيرهم إلى النار ، وأكد القاضي هذا القول بأنه تعالى بين في سائر الآيات أنه يحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : قال الجبائي أيضا ويحتمل أنهم كذلك في الدنيا ، فيكون توسعا من حيث جعلوا بتكذيبهم بآيات الله تعالى في الظلمات لا يهتدون إلى منافع الدين ، كالصم والبكم الذين لا يهتدون إلى منافع الدنيا . فشبههم من هذا الوجه بهم ، وأجرى عليهم مثل صفاتهم على سبيل التشبيه .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث : قال الكعبي قوله : ( صم وبكم ) محمول على الشتم والإهانة ، لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة . وأما قوله تعالى : ( من يشأ الله يضلله ) فقال الكعبي : ليس هذا على سبيل المجاز ؛ لأنه تعالى وإن أجمل القول فيه ههنا ، فقد فصله في سائر الآيات وهو قوله : ( ويضل الله الظالمين ) [ إبراهيم : 27 ] وقوله : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) [ البقرة : 26 ] وقوله : ( والذين اهتدوا زادهم هدى ) [ محمد : 17 ] وقوله : ( يهدي به الله من اتبع رضوانه ) [ المائدة : 16 ] وقوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) [ إبراهيم : 27 ] وقوله : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم ) [ العنكبوت : 69 ] فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال وإن كانت مجملة في هذه الآية ، إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات ، فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات ، ثم إن المعتزلة ذكروا تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد من قوله : ( الظلمات من يشأ الله يضلله ) محمول على منع الألطاف فصاروا عندها كالصم والبكم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : ( من يشأ الله يضلله ) يوم القيامة عن طريق الجنة وعن وجدان الثواب ومن يشأ أن يهديه إلى الجنة يجعله على صراط مستقيم ، وهو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                            وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الإضلال إلا لمن يستحق عقوبة كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه الوجوه التي تكلفها هؤلاء الأقوام إنما يحسن المصير إليها لو ثبت في العقل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره . وأما لما ثبت بالدليل العقلي القاطع أنه لا يمكن حمل هذا الكلام إلا على ظاهره كان العدول إلى هذه الوجوه المتكلفة بعيدا جدا ، وقد دللنا على أن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعي ، وبينا أن خالق ذلك الداعي هو الله ، وبينا أن عند حصوله يجب الفعل ، فهذه المقدمات الثلاثة توجب القطع بأن الكفر والإيمان من الله ، وبتخليقه وتقديره وتكوينه ، ومتى ثبت بهذا البرهان القاطع صحة هذا الظاهر ، كان الذهاب إلى هذه التكلفات فاسدا قطعا ، وأيضا فقد تتبعنا هذه الوجوه بالإبطال والنقض في [ ص: 183 ] تفسير قوله : ( ختم الله على قلوبهم ) [ البقرة : 7 ] وفي سائر الآيات ، فلا حاجة إلى الإعادة ، وأقربها أن هذا الإضلال والهداية معلقان بالمشيئة ، وعلى ما قالوه : فهو أمر واجب على الله تعالى يجب عليه أن يفعله شاء أم أبى والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله : ( والذين كفروا بآياتنا ) اختلفوا في المراد بتلك الآيات ، فمنهم من قال : القرآن ومحمد ، ومنهم من قال : يتناول جميع الدلائل والحجج ، وهذا هو الأصح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية