الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الحج أشهر معلومات ) لما أمر الله تعالى بإتمام الحج والعمرة ، وكانت العمرة لا وقت لها معلوما : بين أن الحج له وقت معلوم ، فهذه مناسبة هذه الآية لما قبلها .

والحج أشهر ، مبتدأ وخبر ، ولا بد من حذف ، إذ الأشهر ليست الحج ، وذلك الحذف إما في المبتدأ ، فالتقدير : أشهر الحج ، أو وقت الحج ، أو في الخبر ، أي : الحج حج أشهر ، أو يكون الأصل في أشهر ، فاتسع فيه ، وأخبر بالظرف عن الحج لما كان يقع فيه ، وجعل إياه على سبيل التوسع والمجاز ، وعلى هذا التقدير كان يجوز النصب ، ولا يمتنع في العربية .

قال ابن عطية : ومن قدر الكلام في أشهر ، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر ، ولم يقرأ بنصبها أحد ، انتهى كلامه . ولا يلزم نصب الأشهر مع سقوط حرف الجر ، كما ذكر ابن عطية : لأنا قد ذكرنا أنه يرفع على الاتساع ، وهذا لا خلاف فيه عند البصريين ، أعني أنه إذا كان ظرف الزمان نكرة خبرا عن المصادر ، فإنه يجوز عندهم الرفع والنصب ، وسواء كان الحدث مستغرقا للزمان أو غير مستغرق ، وأما الكوفيون فعندهم في ذلك تفصيل ، وهو أن الحدث إما أن يكون مستغرقا [ ص: 85 ] للزمان ، فيرفع ولا يجوز فيه النصب ، أو غير مستغرق فذهب هشام أنه يجب فيه الرفع ، فيقول : ميعادك يوم وثلاثة أيام ، وذهب الفراء إلى جواز النصب والرفع كالبصريين ، ونقل عن الفراء في هذا الموضع أنه لا يجوز نصب الأشهر : لأن " أشهرا " نكرة غير محصورة . وهذا النقل مخالف لما نقلنا نحن عنه ، فيمكن أن يكون له القولان ، قول البصريين وقول هشام ، وجمع شهر على أفعل : لأنه جمع قلة بخلاف قوله : ( إن عدة الشهور ) ، فإنه جاء على فعول ، وهو جمع الكثرة .

وظاهر لفظ أشهر الجمع ، وهو شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة كله ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عمر ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والزهري ، والربيع ، ومالك . وقال ابن عباس ، وابن الزبير ، وابن سيرين ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وطاوس ، والنخعي ، وقتادة ، ومكحول ، والسدي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وابن حبيب ، عن مالك هي شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة . وروي هذا عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وحكى الزمخشري ، وصاحب ( المنتخب ) عن الشافعي : أن الثالث التسعة من ذي الحجة مع ليلة النحر : لأن الحج يفوت بطلوع الفجر . وهذان القولان فيهما مجاز ، إذ أطلق على بعض الشهر شهر .

وقال الفراء : تقول العرب : له اليوم يومان لم أره ، وإنما هو يوم وبعض يوم آخر ، وإنما قالوا ذلك تغليبا لأكثر الزمان على أقله ، وهو كما نقل في الحديث : أيام منى ثلاثة أيام ، وإنما هي يومان وبعض الثالث ، وهو من باب إطلاق بعض على كل ، وكما قال الشاعر :


ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال



على أحد التأويلين ، قيل : ولأن العرب توقع الجمع على التثنية إذ كانت التثنية أقل الجمع ، وقال الزمخشري : فإن قلت فكيف كان الشهران وبعض الشهر أشهرا ؟ قلت : اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، بدليل قوله تعالى : ( فقد صغت قلوبكما ) : فلا سؤال فيه إذن ، وإنما يكون موضعا للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات ، انتهى كلامه .

وما ذكره الدعوى فيه عامة ، وهو أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، وهذا فيه النزاع . والدليل الذي ذكره خاص ، وهو : ( فقد صغت قلوبكما ) ، وهذا لا خلاف فيه ، ولإطلاق الجمع في مثل هذا على التثنية شروط ذكرت في النحو ، و " أشهر " ليس من باب : ( فقد صغت قلوبكما ) ، فلا يمكن أن يستدل به عليه . وقوله فلا سؤال فيه إذن ، ليس بجيد : لأنه فرض السؤال بقوله فإن قلت ، وقوله : فإنما كان يكون موضعا للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات ، ولا فرق عندنا بين شهر وبين قوله ثلاثة أشهر : لأنه كما يدخل المجاز في لفظ أشهر ، كذلك قد يدخل المجاز في العدد ، ألا ترى إلى ما حكاه الفراء له اليوم يومان لم أره ؟ قال : وإنما هو يوم وبعض يوم آخر ، وإلى قول امرئ القيس :


ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال



على ما قدمنا ذكره ، وإلى ما حكي عن العرب ، ما رأيته مذ خمسة أيام وإن كنت قد رأيته في اليوم الأول والخامس ، فلم يشمل الانتفاء خمسة أيام جميعها ، بل تجعل : ما رأيته في بعضه ، وانتفت الرؤية في بعضه ، كان يوم كامل لم تره فيه ، فإذا كان هذا موجودا في كلامهم ، فلا فرق بين أشهر وبين ثلاثة أشهر ، لكن مجاز الجمع أقرب من مجاز العدد .

قالوا : وثمرة الخلاف بين قول من جعل الأشهر هي الثلاثة بكمالها ، وبين من جعلها شهرين وبعض الثالث ، يظهر في تعلق الدم فيما يقع من الأعمال يوم النحر ، فعلى القول الأول لا يلزمه دم : لأنها وقعت في أشهر الحج ، وعلى الثاني يلزمه : لأنه قد انقضى الحج بيوم النحر ، وأخر عمل ذلك عن وقته .

وفائدة التوقيت بالأشهر أن شيئا من أفعال الحج لا يصح إلا فيها ، ويكره الإحرام بالحج في غيرها عند أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، وبه قال النخعي . قال : ولا يحل حتى يقضي حجه . وقال عطاء ، ومجاهد ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو الثور : لا يصح ، وينقلب عمرة ويحل لها . وقال ابن عباس : من سنة الحج الإحرام به . وسبب الخلاف اختلافهم في المحذوف في قوله : ( الحج أشهر معلومات ) ، هل التقدير الإحرام [ ص: 86 ] بالحج أو أفعال الحج ؟ وذكر الحج في هذه الأشهر لا يدل على أن العمرة لا تقع ، وما روي عن عمر وابنه عبد الله أن العمرة لا تستحب فيها ، فكأن هذه الأشهر مخلصة للحج . وروي أن عمر كان يخفق الناس بالدرة ، وينهاهم عن الاعتمار فيهن ، وعن ابن عمر أنه قال لرجل : إن أطلقني انتظرت ، حتى إذا أهللت المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة . ومعنى " معلومات " معروفات عند الناس ، وأن مشروعية الحج فيها إنما جاءت على ما عرفوه وكان مقررا عندهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية