الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 257 ] القول في تأويل قوله ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )

قال أبو جعفر : وهذا إعلام من الله أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم ، أعانوه أو لم يعينوه ، وتذكير منه لهم فعل ذلك به ، وهو من العدد في قلة ، والعدو في كثرة ، فكيف به وهو من العدد في كثرة ، والعدو في قلة؟

يقول لهم جل ثناؤه : إلا تنفروا ، أيها المؤمنون ، مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه ، فالله ناصره ومعينه على عدوه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم؛ كما نصره ( إذ أخرجه الذين كفروا ) ، بالله من قريش من وطنه وداره ( ثاني اثنين ) ، يقول : أخرجوه وهو أحد الاثنين ، أي : واحد من الاثنين .

وكذلك تقول العرب : "هو ثاني اثنين" يعني : أحد الاثنين ، و"ثالث ثلاثة ، ورابع أربعة" ، يعني : أحد الثلاثة ، وأحد الأربعة . وذلك خلاف قولهم : "هو أخو ستة ، وغلام سبعة" ، لأن "الأخ" ، و"الغلام" غير الستة والسبعة ، "وثالث الثلاثة" ، أحد الثلاثة .

وإنما عنى - جل ثناؤه - بقوله : ( ثاني اثنين ) ، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه ، لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش إذ هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار .

وقوله : ( إذ هما في الغار ) ، يقول : إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر [ ص: 258 ] رحمة الله عليه ، في الغار .

و"الغار" ، النقب العظيم يكون في الجبل .

( إذ يقول لصاحبه ) ، يقول : إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر ، ( لا تحزن ) ، وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما ، فجزع من ذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تحزن" ، لأن الله معنا والله ناصرنا ،

فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا .

يقول جل ثناؤه : فقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد ، فكيف يخذله ويحوجه إليكم ، وقد كثر الله أنصاره ، وعدد جنوده؟

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

16725 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( إلا تنصروه ) ، ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثه . يقول الله : فأنا فاعل ذلك به وناصره ، كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين .

16726 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) ، قال : ذكر ما كان في أول شأنه حين بعث ، فالله فاعل به كذلك ، ناصره كما نصره إذ ذاك ( ثاني اثنين إذ هما في الغار ) .

16727 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) ، الآية ، قال : فكان صاحبه أبو بكر ، وأما [ ص: 259 ] "الغار" ، فجبل بمكة يقال له : " ثور " .

16728 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال : حدثني أبي قال : حدثنا أبان العطار قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه ، وكان لأبي بكر منيحة من غنم تروح على أهله ، فأرسل أبو بكر عامر بن فهيرة في الغنم إلى ثور . وكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في ثور ، وهو "الغار" الذي سماه الله في القرآن .

16729 - حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي قال : حدثنا عفان وحبان قالا : حدثنا همام ، عن ثابت ، عن أنس ، أن أبا بكر رضي الله عنه حدثهم قال : بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وأقدام المشركين فوق رؤوسنا ، فقلت : يا رسول الله ، لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا! فقال : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ [ ص: 260 ]

16730 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد قال : مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا .

16731 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : ( إذ هما في الغار ) ، قال : في الجبل الذي يسمى ثورا ، مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليال .

16732 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبيه : أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال : أيكم يقرأ "سورة التوبة"؟ قال رجل : أنا . قال : اقرأ ، فلما بلغ : ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن ) ، بكى أبو بكر وقال : أنا والله صاحبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية