الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            3149 - ( وعن ابن عمر قال { : كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها } . رواه أحمد والنسائي وأبو داود وقال : فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يدها . قال أبو داود : ورواه ابن أبي نجيح عن نافع عن صفية بنت عبيد ، قال فيه : فشهد عليها ) .

                                                                                                                                            3150 - ( وعن عائشة قالت { : كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها ، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه ، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا أسامة لا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل ، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال : إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه ، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها فقطع يد المخزومية } . رواه أحمد ومسلم والنسائي .

                                                                                                                                            وفي رواية قال { : استعارت امرأة ، يعني حليا على ألسنة ناس يعرفون ولا تعرف هي ، فباعته ، فأخذت فأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يدها ، } وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد ، وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال . رواه أبو داود والنسائي ) .

                                                                                                                                            [ ص: 157 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            [ ص: 157 ] حديث ابن عمر أخرجه أيضا أبو عوانة في صحيحه من طريق أيوب عن نافع عنه ، وأخرجه أيضا النسائي وأبو عوانة من وجه آخر عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عنه أيضا بلفظ " استعارت حليا " . قوله : ( كانت مخزومية ) اسمها فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو وهي بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد الصحابي . قوله : ( تستعير المتاع وتجحده ) في رواية لعبد الرزاق بسند صحيح إلى أبي بكر بن عبد الرحمن { أن امرأة جاءت فقالت : إن فلانة تستعير حليا فأعارتها فمكثت لا تراها ، فجاءت إلى التي استعارت لها تسألها ، فقالت : ما استعرتك شيئا ، فرجعت إلى الأخرى فأنكرت ، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاها فسألها ، فقالت : والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئا ، فقال : اذهبوا إلى بيتها تجدوه تحت فراشها ، فأتوه وأخذوه ، فأمر بها فقطعت } . قوله : ( فأتى أهلها أسامة فكلموه ) في رواية للبخاري : { إن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا : من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم } وجاء في رواية " أن المخزومية المذكورة عاذت بأم سلمة " وأخرج الحاكم موصولا وأبو داود مرسلا أنها عاذت بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذلك بأن زينب ماتت في شهر جمادى من السنة السابعة من الهجرة ، وقصة المخزومية في غزوة الفتح سنة ثمان . وقيل : المراد زينب بنت أم سلمة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم فتكون نسبتها إليه مجازا . وجاء في رواية لعبد الرزاق أنها عاذت بعمرو بن أبي سلمة . والجمع بين الروايات أنها عاذت بأم سلمة وابنيها فشفعوا لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يشفعهم ، فطلب الجماعة من قريش من أسامة الشفاعة ظنا منهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل شفاعته لمحبته له . قوله : ( لا أراك تشفع في حد من حدود الله ) فيه دليل على تحريم الشفاعة في الحدود وهو مقيد بما إذا كان قد وقع الرفع إلى الإمام لا قبل ذلك فإنه جائز ، وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث من مرسل حبيب بن أبي ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة { لما تشفع : لا تشفع في حد فإن الحدود إذا انتهت إلي فليست بمتروكة } .

                                                                                                                                            وقد قدمنا في باب الحث على إقامة الحدود والنهي عن الشفاعة فيه ما فيه أكمل دلالة على الفرق بين الشفاعة في الحد قبل الرفع وبعده . قوله : ( إنما هلك من كان قبلكم ) في رواية : { إنما هلك بنو إسرائيل } وظاهر الحصر العموم وأنه لم يقع الهلاك لمن قبل هذه الأمة أو لبني إسرائيل إلا بهذا السبب . وقيل : المراد من هلك بسبب تضييع الحدود ، فيكون المراد بالعموم هذا النوع الخاص .

                                                                                                                                            وفي حديث عائشة عند أبي الشيخ أنهم عطلوا الحدود عن الأغنياء وأقاموها على الضعفاء ، ومثله ما في حديث الباب { أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه . . . } إلخ .

                                                                                                                                            وفي حديث ابن عباس { أنهم كانوا يأخذون الدية من الشريف إذا قتل عمدا والقصاص [ ص: 158 ] من الضعيف } .

                                                                                                                                            قوله : ( فقطع يد المخزومية ) فيه دليل على أنه يقطع جاحد العارية ، وإليه ذهب من لم يشترط في القطع أن يكون من حرز وهو أحمد وإسحاق وزفر والخوارج كما سلف ، وبه قال أهل الظاهر ، وانتصر له ابن حزم . وذهب الجمهور إلى عدم وجوب القطع لمن جحد العارية ، واستدلوا على ذلك بأن القرآن والسنة أوجبا القطع على السارق ، والجاحد للوديعة ليس بسارق . ورد بأن الجحد داخل في اسم السرقة ; لأنه هو والسارق لا يمكن الاحتراز منهما بخلاف المختلس والمنتهب ، كذا قال ابن القيم . ويجاب عن ذلك بأن الخائن لا يمكن الاحتراز عنه لأنه آخذ المال خفية مع إظهار النصح كما سلف . وقد دل الدليل على أنه لا يقطع . وأجاب الجمهور عن أحاديث الباب المذكورة في المخزومية بأن الجحد للعارية وإن كان مرويا فيها من طريق عائشة وجابر وابن عمر وغيرهم ، لكنه ورد التصريح في الصحيحين وغيرهما بذكر السرقة .

                                                                                                                                            وفي رواية من حديث ابن مسعود { أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم } أخرجه ابن ماجه والحاكم وصححه أبو الشيخ وعلقه أبو داود والترمذي ، ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت " أنها سرقت حليا " قالوا : والجمع ممكن بأن يكون الحلي في القطيفة ، فتقرر أن المذكورة قد وقع منها السرق ، فذكر العارية لا يدل على أن القطع كان له فقط . ويمكن أن يكون ذكر الجحد لقصد التعريف بحالها ، وأنها كانت مشتهرة بذلك الوصف ، والقطع كان للسرقة ، كذا قال الخطابي وتبعه البيهقي والنووي وغيرهما ، ويؤيد هذا ما في حديث الباب من قوله صلى الله عليه وسلم : { إنما هلك من كان قبلكم بأنهم إذا سرق فيهم الشريف } . . . إلخ فإن ذكر هذا عقب ذكر المرأة المذكورة يدل على أنه قد وقع منها السرق ، ويمكن أن يجاب عن هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل ذلك الجحد منزلة السرق فيكون دليلا لمن قال : إنه يصدق اسم السرق على جحد الوديعة .

                                                                                                                                            ولا يخفى أن الظاهر من أحاديث الباب أن القطع كان لأجل ذلك الجحد كما يشعر به قوله في حديث ابن عمر بعد وصف القصة " فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها " . وكذلك بقية الألفاظ المذكورة . ولا ينافي ذلك وصف المرأة في بعض الروايات بأنها سرقت ، فإنه يصدق على جاحد الوديعة بأنه سارق كما سلف ، فالحق قطع جاحد الوديعة ويكون ذلك مخصصا للأدلة الدالة على اعتبار الحرز . ووجهه أن الحاجة ماسة بين الناس إلى العارية ، فلو علم المعير أن المستعير إذا جحد لا شيء عليه لجر ذلك إلى سد باب العارية وهو خلاف المشروع .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية