الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3336 (23) باب

                                                                                              صلح الحديبية وقوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا

                                                                                              [ 1300 ] عن البراء قال: لما أحصر - يعني : النبي-صلى الله عليه وسلم- عند البيت، صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثا، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح : السيف وقرابه، ولا يخرج بأحد معه من أهلها، ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه، قال لعلي: " اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله". فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، - وفي رواية : بايعناك - ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فأمر عليا أن يمحاها، فقال علي: لا والله، لا أمحاها. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرني مكانها. فأراه مكانها. فمحاها، وكتب: ابن عبد الله. فأقام بها ثلاثة أيام، فلما أن كان اليوم الثالث قالوا لعلي: هذا آخر يوم من شرط صاحبك فأمره فليخرج، فأخبره بذلك. فقال: "نعم"، فخرج .

                                                                                              رواه أحمد ( 4 \ 289 - 291) والبخاري (2698)، ومسلم (1783) (92)، وأبو داود (1832).

                                                                                              [ ص: 635 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 635 ] (23) ومن باب: صلح الحديبية

                                                                                              ( جلبان السلاح ) بضم الجيم واللام . وذكره الهروي : بإسكان اللام. وصوبه ثابت . وهو مثل الجلبان من القطاني ، وقاله بعض المتقنين بالراء : (جربان) بدل اللام . وجربان السيف والقميص . وفي البخاري : بجلب السلاح . ولعله جمع جلبان . وقد فسر الجلبان في الحديث : بالسيف وما هو فيه ، وهو شبه الجراب من الأدم ، يوضع فيه السيف مغمودا ، ويطرح فيه السوط . وفائدة اشتراطهم ذلك : أن لا يدخل عليهم على حالة المحاربين وهيئتهم ، فيظن أنه دخلها عليهم قهرا.

                                                                                              وقوله : ( هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ) ; أي : ما صالح عليه. وهو حجة لأرباب الوثائق على افتتاحهم الوثائق التي لها بال بهذا ، كقولهم : هذا ما اشترى ، وهذا ما أعتق ، وهذا ما أصدق . وعلى تقديم الرجل الكبير في صدر الوثيقة ، بائعا كان ، أو مبتاعا .

                                                                                              و ( يمحاها ) : يذهبها ويزيلها ; يعني : الكلمة التي نازعه فيها . يقال : محوت الشيء ، ومحيته ، أمحوه ، وأمحاه ، محوا ، ومحيا .

                                                                                              وامتناع علي رضي الله عنه من المحو مع أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك : إنما كان لأنه لم يفهم من ذلك الأمر الجزم ، ولا الإيجاب . وإنما فهم : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بذلك [ ص: 636 ] على جهة المصلحة في موافقتهم على ما طلبوه ، لكن خفي على علي وعمر وغيرهما وجه المصلحة في ذلك ; ولذلك عظمت عليهم تلك الحال ، واشتدت عليهم حتى قال عمر ما قال : وحلف علي : ألا يمحو ما أمره بمحوه تعظيما لمحو اسم الرسالة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في كل ذلك مقبل على ما أراه الله ، وممتثل أمر الله تعالى ساكن الجأش ، واثقا بأن الله لا يضيعه ، وأن الله سيجعل لهم في ذلك خيرا وفرجا ، ولذلك كان حال أبي بكر من سكون الجأش ، والثقة بالله ؟ حتى قال لعمر ما قال ، مما دل على موافقته رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ظاهرا ، وباطنا ، حتى نص على عمر ما قاله له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرفا ، حرفا ، حسب ما نصه في حديث سهل بن حنيف .

                                                                                              وقوله : (" أرني مكانها " ، فأراه ، فمحاها وكتب ) ; ظاهر هذا: أنه -صلى الله عليه وسلم- محى تلك الكلمة التي هي (رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) بيده ، وكتب مكانها : ( ابن عبد الله ) ، وقد رواه البخاري بأظهر من هذا فقال : فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكتاب ، فكتب . وزاد في طريق [ ص: 637 ] أخرى : (ولا يحسن أن يكتب) . فقال جماعة بجواز هذا الظاهر عليه ، وأنه كتب بيده . منهم : السمناني ، وأبو ذر ، والباجي . ورأوا : أن ذلك غير قادح في كونه : أميا ، ولا معارض لقوله تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك [العنكبوت: 48] ولا لقوله : (إنا أمة أمية ، لا نكتب ولا نحسب) ; بل رأوه زيادة في معجزاته ، واستظهارا على صدقه ، وصحة رسالته . وذلك : أنه كتب من غير تعلم الكتابة ، ولا تعاط لأسبابها ، فكان ذلك خارقا للعادة ، كما أنه -صلى الله عليه وسلم- علم علم الأولين والآخرين من غير تعلم ، ولا اكتساب ، فكان ذلك أبلغ في معجزاته ، وأعظم في فضائله ، هذا لو فرض أنه علم الكتابة كلها ، وداوم عليها ، فكيف ولم يرو عنه قط أنه كتب في غير ذلك الموطن الخاص ، بل لم يفارق ما كان عليه من عدم معرفته بالكتابة حالة كتابته تلك ، وإنما أجرى الله تعالى على يده ، وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها : ( ابن عبد الله ) لمن قرأها ، ثم هل كان عالما في تلك الحال بنظم تلك الحروف الخاصة ؟ كل ذلك محتمل . وعلى التقديرين : فلا يزول عنه اسم الأمي بذلك ; ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة : (ولا يحسن أن يكتب) . فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال : (كتب) . وقد أنكر هذا كثير من متفقهة الأندلس وغيرهم ، وشددوا النكير فيه ، ونسبوا قائله إلى الكفر . وذلك دليل : على عدم العلوم النظرية ، وعدم التوقــف في تكفير المسلمين ، ولم يتفطنوا لأن تكفير المسلم كقتله ، [ ص: 638 ] على ما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- في "الصحيح " ، لا سيما رمي من شهد له أهل عصره بالعلم ، والفضل ، والإمامة .

                                                                                              على أن المسألة ليست قطعية ، بل مستندها ظواهر أخبار آحاد صحيحة ، غير أن العقل لا يحيلها ، وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها على ما تقدم.




                                                                                              الخدمات العلمية