الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 163 ] تنبيه

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن ما قاله ابن جرير وغير واحد من أن القول بأن ( إن ) نافية - يلزمه إيهام المحذور الذي لا يجوز في حق الله .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : لأنه إن كان المعنى : ما كان لله ولد ; فإنه لا يدل على نفي الولد إلا في الماضي ، فللكفار أن يقولوا : إذا صدقت ، لم يكن له في الماضي ولد . ولكن الولد طرأ عليه بعد ذلك لما صاهر الجن ، وولدت له بناته التي هي الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                                      وإن هذا المحذور يمنع من الحمل على النفي لا شك في عدم صحته ; لدلالة الآيات القرآنية بكثرة على أن هذا الإيهام لا أثر له ولو كان له أثر لما كان الله يمدح نفسه بالثناء عليه بلفظة ( كان ) الدالة على خصوص الزمن الماضي في نحو قوله - تعالى - : وكان الله عزيزا حكيما [ 4 \ 158 ] . وكان الله عليما حكيما [ 4 \ 17 ] . وكان الله غفورا رحيما [ 4 \ 96 ] . وكان الله على كل شيء قديرا [ 33 \ 27 ] . إن الله كان عليا كبيرا [ 4 \ 34 ] . إلى غير ذلك من الآيات التي يصعب حصرها .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن معنى كل تلك الآيات أنه كان ولم يزل .

                                                                                                                                                                                                                                      فلو كان الكفار يقولون ذلك الذي زعموه الذي هو قولهم : صدقت ، ما كان له ولد في الماضي ، ولكنه طرأ له - لقالوا مثله في الآيات التي ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      كأن يقولوا : كان عليما حكيما [ 4 \ 11 ] في الماضي ، ولكنه طرأ عليه عدم ذلك . وهكذا في جميع الآيات المذكورة ونحوها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأيضا فإن المحذور الذي زعموه لم يمنع من إطلاق نفي الكون الماضي في قوله - تعالى - : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] . وقوله : وما كنت متخذ المضلين عضدا [ 18 \ 51 ] . وقوله : وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون [ 28 \ 59 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أوضحها في محل النزاع قوله - تعالى - : وما كان معه من إله الآية [ 23 \ 91 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يمنع من نفي القرآن للولد في الزمن الماضي في قوله - تعالى - : ما اتخذ الله من ولد [ 23 \ 91 ] [ ص: 164 ] فإن الكفار لم يقولوا يوما ما : صدقت ، ما اتخذه في الماضي ، ولكنه طرأ عليه اتخاذه .

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك في قوله : ولم يتخذ ولدا [ 17 \ 111 ] . وقوله : لم يلد [ 112 \ 3 ] ; لأن ( لم ) تنقل المضارع إلى معنى الماضي .

                                                                                                                                                                                                                                      والكفار لم يقولوا يوما : صدقت ، لم يتخذ ولدا في الماضي ، ولكنه طرأ عليه اتخاذه ، ولم يقولوا : لم يلد في الماضي ، ولكنه ولد أخيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      والحاصل أن الكفار لم يقروا أن الله منزه عن الولد لا في الماضي ولا في الحال ، ولا في الاستقبال .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أن الولادة المزعومة حدث متحدد .

                                                                                                                                                                                                                                      وبذلك تعلم أن ما زعموه من إيهام المحذور في كون ( إن ) في الآية نافية - لا أساس له ولا معول عليه ، وأن ما ادعوه من كونها شرطية ليس لها معنى في اللغة العربية ، إلا المعنى المحذور الذي لا يجوز في حق الله بحال .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن كلام الفخر الرازي في هذه الآية الكريمة الذي يقتضي إمكان صحة الربط بين طرفيها على أنها شرطية لا شك في غلطه فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما إبطاله لقول من قال : إن المعنى : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين له والمكذبين لكم في ذلك ، فهو إبطال صحيح ، وكلامه فيه في غاية الحسن والدقة ، وهو يقتضي إبطاله بنفسه ، لجميع ما كان يقرره في الآية الكريمة .

                                                                                                                                                                                                                                      والحاصل أن كون معنى ( إن ) في الآية الكريمة هو النفي لا إشكال فيه ، ولا محذور ولا إيهام ، وأن الآيات القرآنية تشهد له لكثرة الآيات المطابقة لهذا المعنى في القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما كون معنى الآية الشرط والجزاء فلا يصح له معنى غير محذور في اللغة ، وليس له في كتاب الله نظير ، لإجماع أهل اللسان العربي على اختلاف المعنى في التعليق بإن والتعليق بلو .

                                                                                                                                                                                                                                      لأن التعليق بـ ( لو ) يدل على عدم الشرط ، وعدم الشرط استلزم عدم المشروط بخلاف ( إن ) .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 165 ] فالتعليق بها يدل على الشك في وجود الشرط بلا نزاع .

                                                                                                                                                                                                                                      وما خرج عن ذلك من التعليق بها مع العلم بوجود الشرط أو العلم بنفيه ، فلأسباب أخر ، وأدلة خارجة ، ولا يجوز حملها على أحد الأمرين المذكورين ، إلا بدليل منفصل كما أوضحناه في غير هذا الموضع .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية