الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 171 ] وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : { ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت وأجد في نفسي منه شيئا إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه } . متفق عليه وهو لأبي داود وابن ماجه وقالا فيه : لم يسن فيه شيئا إنما قلناه نحن ، قلت : ومعنى لم يسنه يعني لم يقدره ويوقته بلفظه ونطقه ) .

                                                                                                                                            3168 - ( وعن أبي سعيد قال : جلد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر بنعلين أربعين ، فلما كان زمن عمر جعل بدل كل نعل سوطا . رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            3169 - ( وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار : أنه قال لعثمان : قد أكثر الناس في الوليد ، فقال : سنأخذ منه بالحق إن شاء الله تعالى ، ثم دعا أمير المؤمنين عليا فأمره أن يجلده ، فجلده ثمانين . مختصرا من البخاري .

                                                                                                                                            وفي رواية عنه : أربعين . ويتوجه الجمع بينهما بما رواه أبو جعفر محمد بن علي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام جلد الوليد بسوط له طرفان . رواه الشافعي في مسنده ) .

                                                                                                                                            3170 - ( وعن أبي سعيد قال : { أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل نشوان ، فقال : إني لم أشرب خمرا ، إنما شربت زبيبا وتمرا في دباءة ، قال : فأمر به فنهز بالأيدي وخفق بالنعال ، ونهى عن الدباء ، ونهى عن الزبيب والتمر ، يعني أن يخلطا } . رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            3171 - ( وعن السائب بن يزيد : أن عمر خرج عليهم ، فقال : إني وجدت من فلان ريح شراب ، فزعم أنه شرب الطلاء ، وإني سائل عما شرب ، فإن كان مسكرا جلدته ، فجلده عمر الحد تاما . رواه النسائي والدارقطني ) .

                                                                                                                                            3172 - ( وعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في شرب الخمر قال : إنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون جلدة . رواه الدارقطني ومالك بمعناه ) .

                                                                                                                                            3173 - ( وعن ابن شهاب : أنه سئل عن حد العبد في الخمر فقال : بلغني أن [ ص: 172 ] عليه نصف حد الحر في الخمر وأن عمر وعثمان وعبد الله بن عمر جلدوا عبيدهم نصف الحد في الخمر . رواه مالك في الموطإ ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أبي سعيد الأول أخرجه الترمذي وحسنه ، قال : وفي الباب عن علي وعبد الرحمن بن أزهر وأبي هريرة والسائب وابن عباس وعقبة بن الحارث انتهى . وأثر أبي جعفر محمد بن علي فيه انقطاع .

                                                                                                                                            وحديث أبي سعيد الثاني أصله في صحيح مسلم .

                                                                                                                                            وأخرج الشيخان عن جابر : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعا ، وأن ينبذ الرطب والبسر جميعا } . وأخرج نحوه مسلم عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس ، واتفقا عليه من حديث أبي قتادة بلفظ : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزهو ، والتمر والزبيب ، ولينبذ كل منهما على حدة ، والنهي عن الانتباذ في الدباء } أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس : أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير } وأخرج نحوه الشيخان من حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس ، ولهما أيضا عن أنس : { نهى عن الدباء والمزفت } .

                                                                                                                                            وللبخاري عن ابن أبي أوفى { نهى عن المزفت والحنتم والنقير } ، ولهما عن علي في النهي عن الدباء والمزفت . ولعائشة عند مسلم { نهى وفد عبد القيس أن ينتبذوا في الدباء والنقير والمزفت والحنتم } انتهى . والدباء : هو القرع ، والحنتم : هو الجرار الخضر ، والنقير : هو أصل الجذع ينقر ويتخذ منه الإناء ، والمزفت : هو المطلي بالزفت ، والمقير : هو المطلي بالقار . وأثر عمر رواه النسائي من طريق الحارث بن مسكين وهو ثقة عن ابن القاسم ، يعني عبد الرحمن صاحب مالك ، وهو ثقة أيضا عن مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد عن عمر ، والسائب له صحبة .

                                                                                                                                            وأثر علي الآخر أخرجه أيضا الشافعي ، وهو من طريق ثور بن زيد الديلي ، ولكنه منقطع ، لأن ثورا لم يلحق عمر بلا خلاف ووصله النسائي والحاكم فروياه عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس ، ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة ، ولم يذكر ابن عباس ، وقد أعل هذا بما تقدم في أول الباب أن عمر استشار الناس ، فقال عبد الرحمن : أخف الحدود ثمانون ، فأمر به عمر . قال في التلخيص : ولا يقال : يحتمل أن يكون علي وعبد الرحمن أشارا بذلك جميعا لما ثبت في صحيح مسلم عن علي في جلد الوليد بن عقبة أنه جلده أربعين وقال : { جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين ، وكل سنة ، وهذا أحب إلي } فلو كان هو المشير بالثمانين ما أضافها إلى عمر ولم يعمل لكن يمكن أن يقال إنه قال لعمر باجتهاد ثم تغير اجتهاده ، ولهذا الأثر طرق : منها ما تقدم ، ومنها : ما أخرجه الطبري والطحاوي والبيهقي وفيه ، " أن رجلا من بني كلب يقال له ابن وبرة أخبره أن خالد بن الوليد بعثه إلى عمر وقال له : إن الناس قد انهمكوا [ ص: 173 ] في الخمر واستخفوا العقوبة ، فقال عمر لمن حوله : ما ترون ؟ فقال علي فذكر مثل ما تقدم " . وأخرج نحوه عبد الرزاق عن عكرمة . وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال : " شرب نفر من أهل الشام الخمر وتأولوا الآية الكريمة ، فاستشار فيهم ، فقلت : أرى أن تستتيبهم فإن تابوا ضربتهم ثمانين ، وإلا ضربت أعناقهم لأنهم استحلوا ما حرم ، فاستتابهم فتابوا ، فضربهم ثمانين ثمانين " .

                                                                                                                                            وأثر ابن شهاب فيه انقطاع لأنه لم يدرك عمر ولا عثمان . قوله : ( فإنه لو مات وديته ) في هذا الحديث دليل على أنه إذا مات رجل بحد من الحدود لم يلزم الإمام ولا نائبه الأرش ولا القصاص إلا حد الشرب . وقد اختلف أهل العلم في ذلك . فذهب الشافعي وأحمد بن حنبل والهادي والقاسم والناصر وأبو يوسف ومحمد إلى أنه لا شيء فيمن مات بحد أو قصاص مطلقا من غير فرق بين حد الشرب وغيره .

                                                                                                                                            وقد حكى النووي الإجماع على ذلك ، وفيه نظر فإنه قد قال أبو حنيفة وابن أبي ليلى إنها تجب الدية على العاقلة كما حكاه في البحر . وأجابا بأن عليا لم يرفع هذه المقالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، بل أخرجها مخرج الاجتهاد . وكذلك يجاب عن رواية عبيد بن عمير " أن عليا وعمر قالا : من مات من حد أو قصاص فلا دية له ، الحق قتله " ورواه بنحوه ابن المنذر عن أبي بكر . واحتجا بأن اجتهاد بعض الصحابة لا يجوز به إهدار دم امرئ مسلم مجمع على أنه لا يهدر ، وقد أجيب عن هذا بأن الهدر ما ذهب بلا مقابل له ، ودم المحدود مقابل للذنب ، ورد بأن المقابل للذنب عقوبة لا تفضي إلى القتل .

                                                                                                                                            وتعقب هذا الرد بأنه تسبب بالذنب إلى ما يفضي إلى القتل في بعض الأحوال فلا ضمان ، وأما من مات بتعزير فذهب الجمهور إلى أنه يضمنه الإمام ، وذهبت الهادوية إلى أنه لا شيء فيه كالحد . وحكى النووي عن الجمهور من العلماء أنه لا ضمان فيمن مات بتعزير لا على الإمام ولا على عاقلته ولا في بيت المال . وحكي عن الشافعي أنه يضمنه الإمام ويكون على عاقلته . قوله : ( لم يسنه ) قد قدمنا الجمع بين هذا وبين روايته السابقة { أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين } .

                                                                                                                                            قوله : ( فجلده ثمانين ) هذا يخالف ما تقدم في أول الباب أن عليا أمر بجلده أربعين ، وظاهر هذه الرواية أنه جلد بنفسه وأن جملة الجلد ثمانون . وقد جمع المصنف بين الروايتين بما ذكره من رواية أبي جعفر ، ولا بد من الجمع بمثل ذلك لأن حمل ذلك على تعدد الواقعة بعيد جدا ، فإن المحدود في القصتين واحد وهو الوليد بن عقبة ، وكان ذلك بين يدي عثمان في حضرة علي .

                                                                                                                                            قوله : ( نشوان ) بفتح النون وسكون الشين . قال في القاموس : رجل نشوان ونشيان : سكران بين النشوة انتهى . قوله : ( في دباءة ) بضم الدال وتشديد الباء الموحدة واحدة الدباء ، وهي الآنية التي تتخذ منه . قوله : ( نهز ) بضم النون وكسر الهاء بعدها زاي : وهو الدفع باليد ، [ ص: 174 ] قال في القاموس : نهزه كمنعه : ضربه ودفعه . قوله : { ونهى عن الزبيب والتمر } يعني أن يخلطا فيه دليل على أنه لا يجوز الجمع بين الزبيب والتمر وجعلهما نبيذا ، وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى . قوله : ( فزعم أنه شرب الطلاء ) هي الخمرة اللذيذة على ما في القاموس .

                                                                                                                                            قوله : ( إذا شرب سكر . . . إلخ ) اعلم أن معنى هذا الأثر لا يتم إلا بعد تسليم أن كل شارب خمر يهذي بما هو افتراء ، وأن كل مفتر يجلد ثمانين جلدة ، والكل ممنوع ، فإن الهذيان إذا كان ملازما للسكر فلا يلزمه الافتراء لأنه نوع خاص من أنواع ما يهذو به الإنسان ، والجلد إنما يلزم من افترى افتراء خاصا وهو القذف لا كل مفتر ، وهذا مما لا خلاف فيه فكيف صح مثل هذا القياس .

                                                                                                                                            فإن قال قائل : إنه من باب الإخراج للكلام على الغالب فذلك أيضا ممنوع فإن أنواع الهذيان بالنسبة إلى الافتراء ، وأنواع الافتراء بالنسبة إلى القذف هي الغالبة بلا ريب ، وقد تقرر في علم المعاني أن أصل إذا الجزم بوقوع الشرط ، ومثل هذا الأمر النادر مما يبعد الجزم بوقوعه باعتبار كثرة الأفراد المشاركة له في ذلك الاسم وغلبتها ، وللقياس شروط مدونة في الأصول لا تنطبق على مثل هذا الكلام ، ولكن مثل أمير المومنين رضي الله عنه ومن بحضرته من الصحابة الأكابر هم أصل الخبرة بالأحكام الشرعية ومداركها . قوله : ( بلغني أن عليه نصف حد الحر ) قد ذهب إلى التنصيف للعبد في حد الزنا والقذف والشرب الأكثر من أهل العلم .

                                                                                                                                            وذهب ابن مسعود والليث والزهري وعمر بن عبد العزيز إلى أنه يستوي الحر والعبد في ذلك لعموم الأدلة . ويجاب بأن القرآن مصرح في حد الزنا بالتنصيف . قال الله تعالى : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } ويلحق بالإماء العبيد ، ويلحق بحد الزنا سائر الحدود ، وهذا قياس صحيح لا يختلف في صحته من أثبت العمل بالقياس .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية