الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وعمومه ) أي عموم ما خص بمبين ( مراد تناولا ، لا حكما ) أي من جهة تناول اللفظ لأفراده ، لا من جهة الحكم . ( وقرينته لفظية وقد تنفك ) عنه . ( والعام الذي أريد به الخصوص . كلي استعمل في جزئي ومن ثم كان ) هذا ( مجازا ) لنقل اللفظ عن موضوعه الأصلي ، بخلاف ما قبله ( وقرينته عقلية لا تنفك ) عنه ومما يدل على الفرق بينهما : أن دلالة الأول أعم من دلالة الثاني . قال في شرح التحرير : لم يتعرض كثير من العلماء للفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص . وهو من مهمات هذا الباب . وفرق بينهما أبو حامد بأن الذي أريد به الخصوص : ما كان المراد به أقل . وما ليس بمراد هو الأكثر .

قال ابن هبيرة : وليس كذلك العام المخصوص : لأن المراد به هو الأكثر ، وما ليس بمراد : هو الأقل . وفرق الماوردي بوجهين : أحدهما : هذا . والثاني : أن إرادة ما أريد به العموم ، ثم خص بتأخر أو تقارن . وقال ابن دقيق العيد : يجب أن يتنبه للفرق بينهما . فالعام المخصوص أعم من العام الذي أريد به الخصوص . ألا [ ص: 363 ] ترى أن المتكلم إذا أراد باللفظ أولا ما دل عليه ظاهره من العموم ، ثم أخرج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ : كان عاما مخصوصا ، ولم يكن عاما أريد به الخصوص ؟ ويقال : إنه منسوخ بالنسبة إلى البعض الذي أخرج . وهذا متوجه إذا قصد العموم . وفرق بينه وبين أن لا يقصد الخصوص ، بخلاف ما إذا نطق باللفظ العام مريدا به بعض ما تناوله في هذا . انتهى .

قال البرماوي : وحاصل ما قرره : أن العام إذا قصر على بعضه ، له ثلاث حالات . الأولى : أن يراد به في الابتداء خاص ، فهذا هو المراد به خاص . والثانية : أن يراد به عام ، ثم يخرج منه بعضه ، فهذا نسخ . والثالثة : أن لا يقصد به خاص ولا عام في الابتداء ، ثم يخرج منه أمر يتبين بذلك أنه لم يرد به في الابتداء عمومه ، فهذا هو العام المخصوص . ولهذا كان التخصيص عندنا بيانا ، لا نسخا . إلا إن أخرج بعد دخول وقت العمل بالعام ، فيكون نسخا ، لأنه قد تبين أن العموم أريد به في الابتداء . انتهى . وفرق السبكي ، فقال : العام المخصوص أريد عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لها ، لا من جهة الحكم ، والذي أريد به الخصوص لم يرد شموله لجميع الأفراد لا من جهة التناول ولا من جهة الحكم بل هو كلي استعمل في جزئي ، ولهذا كان مجازا قطعا ، لنقل اللفظ عن موضوعه الأصلي ، بخلاف العام المخصوص . وقال شيخ الإسلام البلقيني : الفرق بينهما من أوجه : أحدها : أن قرينة المخصوص لفظية ، وقرينة الذي أريد به الخصوص عقلية .

الثاني : أن قرينة المخصوص قد تنفك عنه ; وقرينة الذي أريد به الخصوص لا تنفك عنه ، قال ابن قاضي الجبل : يجوز ورود العام والمراد به الخصوص ، خبرا كان أو أمرا . قال أبو الخطاب : وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله في قوله تعالى { تدمر كل شيء بأمر ربها } قال : وأتت على أشياء لم تدمرها ، كمساكنهم والجبال ( والجواب ) من الشارع إن لم يكن مستقلا بالسؤال ، وهو المراد بقوله ( لا المستقل ) فهو ( تابع لسؤال ) في ( عمومه ) اتفاقا نحو { جواب النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب ، إذا يبس ؟ قيل : نعم . قال : فلا إذن }

وفي قول : ( و ) كذا في ( خصوصه ) يعني أن الجواب غير المستقل يتبع السؤال في [ ص: 364 ] خصوصه أيضا في أحد قولي العلماء ، نحو قوله تعالى { هل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم } وكحديث أنس { قال رجل : يا رسول الله ، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه ، أينحني له ؟ قال : لا . قال : أفيلزمه ويقبله ؟ قال : لا . قال : فيأخذه بيده ويصافحه ؟ قال : نعم } قال الترمذي : حديث حسن .

قال أبو الخطاب في التمهيد : كقوله لغيره : تغد عندي ، فيقول لا . وقال القاضي وغيره : كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة { . تجزيك ، ولا . تجزي أحدا بعدك } أي في الأضحية . قال الآمدي : فهذا وأمثاله وإن ترك فيه الاستفصال مع تعارض الأحوال : لا يدل على التعميم في حق غيره ، كما قاله الشافعي ، إذ اللفظ لا عموم له . ولعل الحكم على ذلك الشخص لمعنى يختص به ، كتخصيص أبي بردة بقوله { ولا تجزئ أحدا بعدك } ثم بتقدير تعميم المعنى فبالعلة لا بالنص . وقاله قبله أبو المعالي ، لاحتمال معرفة حاله . فأجاب على ما عرف . وعلى هذا تجري أكثر الفتاوى من المفتين . قال ابن مفلح : كذا قال . والقول الثاني للعلماء : إن الجواب غير المستقل لا يتبع السؤال في خصوصه ، إذ لو اختص به لما احتيج إلى تخصيصه . وهذا ظاهر كلام الشافعي أيضا في قوله " ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال : ينزل منزلة العموم في المقال ، ويحسن به الاستدلال " قال المجد في المسودة : وهذا ظاهر كلام الإمام أحمد رضي الله عنه ، لأنه احتج في مواضع كثيرة بمثل ذلك وكذلك أصحابنا . وقال المجد أيضا : وما سبق إنما يمنع قوة العموم لا ظهوره ، لأن الأصل عدم المعرفة لما لم يذكر . ومثله الشافعي رحمه الله { بقول النبي صلى الله عليه وسلم لغيلان وقد أسلم على عشر نسوة : أمسك أربعا } ولم يسأله : هل ورد العقد عليهن معا أو مرتبا ؟ فدل على عدم الفرق . وروي عن الشافعي عبارة أخرى ، وهي " حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال ، وسقط بها الاستدلال " فاختلفت أجوبة العلماء عن ذلك . فمنهم من قال : هذا مشكل ، ومنهم من قال : له قولان .

وقال الأصفهاني : يحمل الأول على قول يحال عليه العموم ، ويحمل الثاني على [ ص: 365 ] فعل ، لأنه لا عموم له . واختاره شيخ الإسلام البلقيني ، وابن دقيق العيد في شرح الإلمام ، والسبكي في باب ما يحرم من النكاح في شرح المنهاج . وقال القرافي : الأول مع بعد الاحتمال ، والثاني مع قرب الاحتمال . ثم الاحتمال إن كان في دليل الحكم سقط الحكم والاستدلال ، كقوله في المحرم { لا تمسوه طيبا ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا } . وقال أيضا : الأول إذا كان الاحتمال في محل الحكم كقصة غيلان ، والثاني إذا كان الاحتمال في دليل الحكم . قال ابن مفلح : كذا قال . وعند أحمد والشافعي وأصحابهما : الحكم عام في كل محرم . ثم قال أصحابنا في ذلك : حكمه في واحد حكمه في مثله ، إلا أن يرد تخصيصه . ولهذا حكمه في شهداء أحد حكمه في سائر الشهداء . قال القاضي وغيره : اللفظ خاص ، والتعليل عام في كل محرم . وعند الحنفية والمالكية يختص بذلك المحرم ( و ) الجواب ( المستقل ) وهو الذي لو ورد ابتداء لأفاد العموم ( إن ساوى السؤال ) في عمومه وخصوصه عند كون السؤال عاما أو خاصا ( تابعه ) أي تابع الجواب السؤال ( فيما فيه ) أي في السؤال ( منهما ) أي من العموم والخصوص ، فالعموم نحو قوله صلى الله عليه وسلم حين { سئل عن الوضوء بماء البحر هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته } والخصوص نحو قوله صلى الله عليه وسلم حين { سأله الأعرابي عن وطئه في نهار رمضان أعتق رقبة } قال الغزالي : هذا مراد الشافعي بالعبارة الأولى ( فإن كان الجواب أخص من السؤال اختص به ) أي الجواب ( السؤال ) كمن يسأل عن قتل النساء الكوافر ؟ فيقال له : اقتل المرتدات ، فيختص السؤال عن قتل النساء بالمرتدات منهن . ( وإن كان ) الجواب ( أعم ) من السؤال .

مثاله : لما { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء بئر بضاعة ؟ فقال الماء طهور لا ينجسه شيء } ( أو ورد ) حكم ( عام على سبب خاص بلا سؤال ) ، كما روي " { أنه صلى الله عليه وسلم مر على شاة ميتة لميمونة ، فقال : أيما إهاب دبغ فقد طهر } . ( اعتبر عمومه ) أي عموم الجواب في الصورة الأولى ، وعموم اللفظ الوارد على السبب الخاص في الثانية ، ولم يقتصر على سببه عند أحمد [ ص: 366 ] والشافعي وأكثر أصحابهما رضي الله عنهما وأكثر الحنفية والمالكية والأشعرية ، لأن عدول المجيب عما سئل عنه ، أو عدول الشارع عما اقتضاه حال السبب الذي ورد العام عليه عن ذكره بخصوصه إلى العموم دليل على إرادته ، لأن الحجة في اللفظ ، وهو مقتضى العموم ، والسبب لا يصلح معارضا ، لجواز أن يكون المقصود عند ورود الجواب أو السبب : بيان القاعدة العامة لهذه الصورة وغيرها . قال في شرح التحرير : ولنا قول في مذهبنا ، وقاله جمع كثير : أنه يقتصر على سببه . واستدل للأول الذي هو الصحيح : أن الصحابة ومن بعدهم استدلوا على التعميم مع السبب الخاص ، ولم ينكر ، كآية اللعان . ونزلت في هلال بن أمية .

وهو في الصحيحين . وآية الظهار ، ونزلت في أوس بن الصامت . رواه أحمد وأبو داود وغيرهما . وقصة عائشة في الإفك في الصحيحين ، وغير ذلك . فكذا هنا . ولأن اللفظ عام بوضعه والاعتبار به بدليل لو كان أخص . والأصل عدم مانع . وقاس ذلك أصحابنا وغيرهم على الزمان والمكان ، مع أن المصلحة قد تختلف بهما . قال المخالف : لو عم جاز تخصيص السبب بالاجتهاد كغيره . ورد بأن السبب مراد قطعا بقرينة خارجية ، لورود الخطاب بيانا له ، وغيره ظاهر . ولهذا لو سألته امرأة من نسائه طلاقها ، فقال : نسائي طوالق : طلقت . ذكره ابن عقيل إجماعا وأنه لا يجوز تخصيصه . والأشهر عندنا : ولو استثناها بقلبه ، لكن يدين . قال ابن مفلح : ويتوجه فيه خلاف . ولو استثنى غيرها لم تطلق ، على أنه منع في الإرشاد والمبهج والفصول المعتمر المحصر من التحلل مع أن سبب الآية في حصر الحديبية . وكانوا معتمرين . وعن أحمد رحمه الله : أنه حمل ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة { لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين } على أمر الآخرة ، مع أن سببه أمر الدنيا . لكن يحتمل أنه لم يصح عنده سببه ، والأصح عن أحمد : أنه لا يصح اللعان على حمل . وقاله أبو حنيفة . وهو سبب آية اللعان ، واللعان عليه في الصحيحين . لكن ضعفه أحمد . ولهذا في الصحيحين { أنه لاعن بعد الوضع } ثم يحتمل أنه علم وجوده بوحي ، فلا يكون اللعان [ ص: 367 ] معلقا بشرط . وليس سبب الآية قذف حامل ولعانها . وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها { أن عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد : أن ابن وليدة زمعة ابني ، فاقبضه إليك . فلما كان عام الفتح أخذه سعد وفيه فقال سعد : هذا يا رسول الله ، ابن أخي عتبة ، عهد إلي أنه ابنه ، انظر إلى شبهه [ وقال عبد بن زمعة هذا أخي ولد على فراش أبي من وليدته فنظر ] . فرأى فيه شبها بينا بعتبة ، فقال : هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش ، وللعاهر الحجر . واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة . وكانت تحت النبي صلى الله عليه وسلم } وفي لفظ للبخاري { هو أخوك يا عبد }

ولأحمد والنسائي بإسناد جيد من حديث عبد الله بن الزبير { أن زمعة كانت له جارية يطؤها ، وكانت تظن بآخر وفيه احتجبي منه يا سودة ، فليس لك بأخ } . زاد أحمد { أما الميراث فله } " قالوا : لو عم لم ينقل السبب لعدم الفائدة . رد فائدته منع تخصيصه ، ومعرفة الأسباب .

قالوا : لو قال : تغد عندي ، فحلف لا تغديت ، لم يعم ، ومثله نظائرها . رد بالمنع في الأصح عن أحمد . وإن سلم كقول مالك فللعرف ، ولدلالة السبب على النية ، فصار كمنوي . قالوا : لو عم لم يطابق الجواب السؤال . رد طابق وزاد ( وصورة السبب قطعية الدخول في العموم ) عند الأكثر ( فلا يخص باجتهاد ) فيتطرق التخصيص إلى ذلك العام ، إلا تلك الصورة ، فإنه لا يجوز إخراجها ، لكن السبكي قال : إنما تكون صورة السبب قطعية إذا دل الدليل على دخولها وضعا تحت اللفظ العام . وإلا فقد ينازع فيه الخصم ، ويدعي أنه قد يقصد المتكلم بالعام إخراج السبب . فالمقطوع به إنما هو بيان حكمة السبب ، وهو حاصل مع كونه خارجا ، كما يحصل بدخوله . ولا دليل على تعيين واحد من الأمرين . فائدة ، ( قيل : ليس في القرآن عام لم يخص إلا قوله تعالى { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } وقوله تعالى { وهو بكل شيء عليم } ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية