الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( وفسخ تزويج حاكم ، أو غيره ابنته في كعشر [ ص: 435 ] وزوج الحاكم في كإفريقية وظاهرها من مصر وتؤولت أيضا بالاستيطان كغيبة الأقرب الثلاث وإن أسر ، أو فقد فالأبعد )

                                                                                                                            ش : أشار رحمه الله بهذا الكلام إلى اختصار كلام ابن رشد في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح فإنه قال : غيبة الأب على ابنته البكر على ثلاثة أقسام : أحدها أن تكون قريبة كعشرة أيام وما أشبه ذلك فلا خلاف أنها لا تزوج في مغيبه فإن زوجت فسخ النكاح زوجها الولي ، أو السلطان قاله في الواضحة انتهى قال في التوضيح : زاد في المتيطية عن ابن القاسم ويفسخ وإن ولدت الأولاد وإن أجازه الأب انتهى .

                                                                                                                            وإلى هذا القسم أشار المصنف بقوله : " وفسخ نكاح حاكم ، أو غيره ابنته في كعشر والضمير في قوله ابنته عائد على المجبر في قوله وإن أجازه مجبر إلخ .

                                                                                                                            ( تنبيه ) قيد الرجراجي عدم تزويجها بأن لا يتبين ضرر الأب فإن تبين ، زوجت وهو ظاهر وسيأتي كلامه ، ثم قال ابن رشد الثاني أن تكون غيبته بعيدة منقطعة مثل إفريقية ، أو طنجة ، أو الأندلس من مصر وما أشبه ذلك فاختلف في ذلك على أربعة أقوال : أحدها أن الإمام يزوجها إذا دعت إلى ذلك فإن كانت نفقته جارية عليها ولم يخف عليها ولا استوطن الأب البلد الذي هو به وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية وفي المدونة : وقد تؤول على المدونة من قوله فيها ، وأما من خرج تاجرا لغير مقام فلا يزوجها ولي ولا سلطان وإن أرادته وليس يريد المقام بتلك البلدة فلا تهجم للسلطان على ابنته أنها لا تزوج إلا أن يستوطن ذلك البلد ويطول مقامه فيه العشرين سنة والثلاثين حتى يؤيس من رجعته وهذا قول ابن حبيب .

                                                                                                                            الثالث : أنها لا تزوج أبدا وإن طال مقامه وهو ظاهر قول مالك في الموازية وهو قول ابن وهب في رسم الأقضية من سماع يحيى انتهى وهو قول ابن رشد مثل إفريقية من مصر تفسير منه لقول مالك في كتاب النكاح الأول من المدونة .

                                                                                                                            ومن غاب عن ابنته غيبة انقطاع كمن خرج إلى المغازي إلى مثل إفريقية والأندلس وطنجة فأقام بها فرفعت أمرها إلى السلطان فلينظر إليها وليزوجها ، وأما إن خرج تاجرا ، أو في سفر لغير مقام ; فلا يزوجها ولي ولا سلطان وإن أرادته الابنة انتهى فحمل قوله في المدونة : إلى مثل إفريقية على أن المراد من مصر واستبعد ذلك ابن عبد السلام قال : لأن المسألة من كلام مالك في المدونة ويحتمل أن يريد : ذلك مثل إفريقية من المدينة انتهى .

                                                                                                                            وعلى ذلك حملها الرجراجي كما سيأتي في كلامه ، وإلى هذا القسم أشار المصنف بقوله وزوج الحاكم في كإفريقية وظهر من مصر وتؤولت أيضا بالاستيطان فصدر بالقول الأول الذي صدر به ابن رشد وقال : إنه ظاهر المدونة والعتبية وأشار إلى تفسير ابن رشد في المدونة بقوله : وظهر من مصر ، ثم أشار إلى القول الثاني ; لأن ابن رشد ذكر أن المدونة تؤولت عليه وأفاد بقوله أولا أن المدونة تؤولت على الأول أيضا واقتصر على هذين القولين لقوتهما عنده ; لأن المدونة تؤولت عليهما وصدر بالأول ; لأن ابن رشد ضعف القول الثاني فإنه قال [ ص: 436 ] في آخر شرح هذه المسألة : وأما الاعتبار بالاستيطان فلا وجه له انتهى .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) علم من كلام المدونة وكلام ابن رشد أن هذا الخلاف إنما هو إذا كانت غيبة الأب عن ابنته غيبة انقطاع بمعنى أنه طالت إقامته بحيث لا يرتجى قدومه بسرعة غالبا ، وأما من خرج لحاجة ، أو تجارة ونيته العود ولم تطل إقامته فلا تزوج ابنته وصرح بذلك الرجراجي وابن الحاجب وغيرهما وربما يستروح ذلك من قول المصنف وتؤولت أيضا بالاستيطان قال الرجراجي : غيبة الأب عن ابنته البكر على وجهين : غيبة انقطاع ، وغيبة ارتجاع ، وغيبة انقطاع بمعنى الغلبة والاضطرار ، أو على معنى الترفه والاختيار فإن كانت على معنى الغلبة والاضطرار كالأسير فإن كانت البنت في حرز وتخصيص ونفقة جارية ولم تدع إلى النكاح فلا تزوج في غيبة ; إذ لا يجبرها سواه وإن دعت إلى النكاح ; زوجت إن كانت بالغة وإن كانت في غير حرز وتحصين ، أو كانت في حرز ولا كفاية ولا مؤنة معها فإنها تزوج إذا خشي عليها الفساد والضيعة دعت إلى النكاح أم لا وإن كانت غيبة الانقطاع على معنى الترفه والاختيار ; فلا يخلو من أن تعلم حياته ، أو تجهل فإن علمت حياته وكان موضعه قريبا فلا خلاف أنه لا يفتات عليه في إنكاح بناته دعون إلى ذلك أم لا إلا أن يتبين ضرره بهن فيكون كالعاضل فإن الإمام يتقدم إليه إما أن يزوجها وإلا زوجها عليه الإمام وإن كان بعيد الغيبة كالأندلس من المدينة فالمذهب على قولين : أحدهما أنها تزوج بلا تفصيل وهو ظاهر المدونة .

                                                                                                                            ( والثاني ) أنها لا تزوج إلا أن يخشى عليها الفساد والضيعة وهو ظاهر قول مالك في كتاب محمد : وإن جهلت حياته فظاهر المذهب الإمام ينظر لها ويعقد عليها ولمالك في كتاب محمد أن الأخ يزوجها برضاها وهذا الخلاف مبني على الخلاف في المفقود هل حكمه حكم الحي ، أو الميت ؟ وأما إن كانت غيبة الأب غيبة ارتجاع كمن خرج لتجارة ، أو لطلب حاجة فلا إشكال في هذا الوجه أنه لا يتعرض للنظر في أمور بناته على أي حالة هو عليها كما لو كان حاضرا انتهى باختصار وقال ابن الحاجب ويعتبر في غيبة أبي البكر إلى مثل إفريقية لغير تجارة قال في التوضيح واحترز بقوله : لغير تجارة مما لو خرج إلى تجارة فإنها لا تزوج ; لأن الغالب فيها أن يرجع عاجلا انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن عبد السلام ومراد المؤلف بقوله لغير تجارة ما قاله في المدونة غيبة انقطاع لكن فيه مسامحة ; لأن غير التجارة أعم من الانقطاع ومثل ما قال في المدونة نص عليه ابن المواز والقاضي عبد الوهاب انتهى فعلم من هذا أن المراد بقول المصنف : وزوج الحاكم في كإفريقية ما إذا كانت غيبته غيبة انقطاع يعني أنه لا يرجى عوده بسرعة غالبا وليس معناه الاستيطان الذي هو السكنى بنية عدم الانتقال ; لأنه لا يشترط في القول الأول ، وقوله في المدونة وابن الحاجب فيمن خرج لتجارة لا تزوج يريد والله أعلم إذا لم تطل إقامته كما يفهم من قوله في التوضيح ; لأن الغالب أن يرجع عاجلا ويفهم أيضا ذلك من كلام عبد الوهاب الآتي والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثاني ) ما ذكره من أنها تزوج في القول الأول الراجح وإن كانت نفقة الأب جارية عليها ولم يخف عليها الضيعة إنما ذلك إذا كانت بالغة ، أما إذا كانت دون البلوغ ونفقته جارية عليها ولم يخف عليها الفساد فلا تزوج وهذا ظاهر فإن اليتيمة إذا كانت بهذه المثابة ; فلا تزوج فأحرى التي أبوها حي ، نعم إذا خيف عليها الفساد ، أو انقطعت عنها النفقة فتزوج حينئذ قبل البلوغ وصرح بذلك اللخمي ونقله أبو الحسن عن عبد الوهاب قال اللخمي إذا كان سفر الأب قريبا لم تزوج وكذلك إذا كان بعيدا ، أو أسر ، أو فقد وهي في حال صيانة ولم تدع إلى التزويج فإن دعت إليه ولم تكن منه نفقة وهي تحت حاجة ; زوجت وإن كانت نفقته جارية عليها وكان أسيرا ، أو فقيدا زوجت [ ص: 437 ] واختلف إذا علمت حياته ، ولم يكن أسيرا فظاهر الكتاب أنها تزوج وفي كتاب محمد لا تزوج وإن خشي عليها الفساد ; زوجت ولم تترك دعت إلى ذلك أم لا والتزويج إذا كانت النفقة جارية عليها وهي بحال الصيانة إنما يصح بعد البلوغ وإذا عدمت النفقة وكانت تحت الحاجة ، أو خشي عليها الفساد يصح وإن لم يكن بلوغ انتهى .

                                                                                                                            وقال أبو الحسن الصغير قال عبد الوهاب : إذا غاب الأب غيبة انقطاع فإن كانت حياته معلومة ومكانه معروفا إلا أن استئذانه يتعذر وهي بالغة فاختلف في جواز نكاحها فقال مالك : يزوجها الإمام إن رفعت إليه وقال عبد الملك : لا يجوز إنكاحها في حياة الأب بوجه وقال ابن وهب : إن قطع عنها النفقة جاز إنكاحها برضاها وإن أكرهها لم يجز ووجه قول مالك أن طول غيبته ضرر بها فهو كما لو عضلها انتهى .

                                                                                                                            ( الثالث ) هذا الخلاف إنما هو إذا كانت نفقته جارية عليها قال ابن رشد بعد حكاية الأقوال الأربعة المتقدمة : ولا اختلاف بينهم إذا قطع الأب عنها النفقة في غيبته وخشيت عليها الضيعة في أنها تزوج وإن كان ذلك قبل البلوغ ، وإنما اختلفوا هل يزوجها هنا السلطان وهو المشهور ، أو الولي وهو قول ابن وهب والله أعلم انتهى .

                                                                                                                            وظاهر كلام عبد الوهاب المتقدم وكلام ابن يونس في التوضيح أن الخلاف جار سواء كانت النفقة جارية أم لا فتحصل في ذلك طريقان وقد تقدم أن الراجح أنها تزوج مع إجراء النفقة فأحرى إن انقطعت والله أعلم ، ثم قال ابن رشد في الرسم المذكور الثالث أن يكون الأب أسيرا ، أو فقيدا فلا اختلاف في أن الإمام يزوجها إذا دعت إلى ذلك وإن كانت في نفقته وأمنت عليها الضيعة ا هـ . وقال في التوضيح : المشهور أن الولي يزوجها وإن كانت نفقته جارية عليها ولم يخف عليها الضياع قال في المتيطية وبهذا القول القضاء وقال عبد الملك : ليس لهم ذلك إلا بعد أربع سنين من يوم فقد وقال أصبغ : لا تزوج بحال ا هـ . وهو ظاهر كلام الشيخ زروق في شرح الإرشاد وأن الولاية تنتقل للأبعد ونصه : فإن أسر ، أو فقد انتقل للأبعد وإن كان مجبرا على المشهور المتيطي : وبه القضاء وقال بعض الموثقين : وإذا فرعنا على المشهور فينبغي أن يثبت الولي عند الحاكم طول غيبة الأب وانقطاع خبره والجهل بمكانه ، وحينئذ يبيح للولي إنكاحها ا هـ . وفي الطراز أن الإمام يزوجها إذا دعت إلى ذلك فجعل ذلك للحاكم دون الولي وهو الصواب أي وفرق بين هذه والتي قبلها ا هـ . وإلى هذا القسم أشار المؤلف بقوله ( وإن أسر ، أو فقد فالأبعد ) فمشى على ما شهره في المتيطية ، وأما قوله كغيبة الأقرب الثلاث يعني أن المرأة إذا كان لها وليان أحدهما أقرب من الآخر فالولاية للأقرب فإذا غاب هذا الأقرب فهل يسقط حقه وتنتقل الولاية للأبعد أم لا ؟

                                                                                                                            قال المصنف : إن كانت غيبته على مسافة ثلاث ليال يريد فأكثر فإن الولاية تنتقل للحاكم لا للأبعد ; لأن غيبة الأقرب لا تسقط حقه والحاكم وكيل الغائب وهذا معنى قوله كغيبة الأقرب الثلاث ومفهومه أنه لو كانت غيبة الأقرب على مسافة أقل من ثلاث ليال لا تنتقل الولاية للحاكم وهو كذلك إلا أن المصنف لم يذكر ما يفعل والحكم في ذلك أنه يرسل للولي ويعلمه قال ابن عرفة : وقرب غيبة الولي كحضوره ، وبعيدها قال الشيخ روى ابن وهب إن بعدت غيبة الولي زوج السلطان ، ثم قال : وفي كون السلطان بغيبة الأقرب أحق من الأبعد ، أو العكس قولها ونقل اللخمي انتهى ، وانظر إذا أسر الأقرب غير الأب ، أو فقد .

                                                                                                                            وظاهر كلام الشيخ زروق في شرح الإرشاد أن الولاية تنتقل للأبعد ونصه : فإن أسر ، أو فقد انتقل للأبعد وإن كان مجبرا على المشهور المتيطي وبه القضاء ا هـ . ويمكن أن يحمل كلام المصنف على ذلك ويكون قوله وإن أسر أي الأب ، أو الولي الأقرب انتقلت الولاية [ ص: 438 ] للأبعد فتأمله والله أعلم .

                                                                                                                            ( فرع ) قال المتيطي إذا زوج الحاكم فإن كانت بكرا ذكرت معرفة الشهود أن النكاح نظر لها وأن الصداق مهر مثلها كما يفعل في الوصي ; إذ العلة واحدة ولا ينبغي أن يذكر في هذا النظر أنه ثبت عنده شيء مما يجب كما يفعل في إنكاحه لها غيره فانظره .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية