الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قال قائل: فهم يقرون بالعبادات، ويقولون: (ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات تحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات) لا سيما الإسلاميون منهم، فإنهم يعظمون الأدعية والعبادات.

قيل: هم لا يقرون بأن الله نفسه يحدث شيئا بسبب الدعاء أو غيره، وإنما الحوادث كلها عندهم بسبب حركة الفلك، لا بشيء آخر أصلا، وهم إذا قالوا: (إن النفوس تقوى بالدعاء والعبادة والتجرد والتصفية، فتؤثر في هيولي العالم) كان هذا عندهم بمنزلة تأثير الأكل والشرب في الري والشبع، لا يستلزم ذلك عندهم [ ص: 384 ] أمرا يحدث من عند الله تعالى، فإنه لو حدث منه أمر لزم تغيره عندهم، وبطل أصل قولهم.

وهم قد يخافون ما يحدث من الحوادث بسبب أعمالهم، لاقتضاء طبيعة الوجود ذلك، كما يقولون: إن أكل المضرات يورث المرض أو الموت، والسبب لكل الحوادث حركة الفلك، وإن كانت الحوادث لا تحدث بمجرد الحركة، بل بالحركة وغيرها: أما لكون الحركة توجب امتزاجا تستعد به الممتزجات لما يفيض عليها من العقل الفعال، أو لغير ذلك، فهم مطالبون بالموجب لحركة الفلك، وحدوث جميع الحوادث: إن كان الموجب لها علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من معلولها، امتنع أن تكون حركات الممكنات وما فيها من الحوادث صادرة عن هذه العلة، لأن ذلك يقتضي تأخر كثير من معلولاتها، مع ما فيها من الاختلاف العظيم المنافي لبساطتها التي يسمونها الوحدة.

وقد بين في غير هذا الموضع أن الواحد البسيط الذي يقدرونه لا حقيقة له في الخارج أصلا.

وإذا قيل: (القوابل المفعولة الممكنة المبدعة اختلفت وتأخر استعدادها، مع كون الفاعل لها لم يزل ولا يزال على حال واحدة) كان امتناع هذا ظاهرا.

بخلاف ما إذا قيل: (إن نفس الفاعل موصوف بصفات متنوعة وأفعال متنوعة، وله تعالى شؤون وأحوال، كل يوم هو في شأن، فإنه يكون تنوع المفعولات وحدوث الحادثات لتنوع أحوال الفاعل، وأنه يحدث من أمره ما شاء) . [ ص: 385 ]

وإذا طلب الفرق بينهما قيل: أحواله من مقتضيات ذاته الواجبة الوجود بنفسه، التي لا يتوقف شيء من أحوالها على أمر مستغن عنها، ولا يحتاج إليه، وإذا كان واجبا بنفسه، فما كان من لوازمه كان أيضا واجبا لا يمكن عدمه، بخلاف الممكن الذي ليس له من نفسه وجود.

فإنه إذا قيل: اختلف فعل الفاعل، وتأخر لاختلاف القابل وحدوثه.

قيل: فهو أيضا الفاعل للقابل المختلف الحادث.

فكيف تصدر المختلفات الحادثات عن فاعل لا اختلاف في فعله، ولا حدوث لشيء من أفعاله؟.

التالي السابق


الخدمات العلمية