الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال تعالى : قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى قالوا : أي كلام جميل تقبله القلوب ولا تنكره يرد به السائل من غير عطاء ، وستر لما وقع منه من الإلحاف في المسألة وغيره مما يثقل على النفوس ، أو ستر حال الفقير بعدم التشهير به - خير له من صدقة يتبعها أذى . وقيل : إن المراد بالمغفرة المغفرة من الله - تعالى - لمن يرد السائل ردا جميلا ، وذلك خير له عند الله - تعالى - من صدقة يتبعها أذى فهو يستحق عليها العقاب من حيث يرجو الثواب ، والجملة مستأنفة لتأكيد النهي عن المن والأذى في الآية السابقة .

                          وقال الأستاذ الإمام : القول بالمعروف يتوجه تارة إلى السائل إن كانت الصدقة عليه ، وتارة يتوجه إلى المصلحة العامة ، كما إذا هاجم البلد عدو وأرادوا جمع المال للاستعانة على دفعه ، فمن لم يكن له مال يمكنه أن يساعد بالقول المعروف الذي يحث على العمل وينشط العامل ، ويبعث عزيمة الباذل ، والمغفرة أن تغضي عن نسبة التقصير في الإنفاق إليك ، وأن تظهر في هيئة لا ينفر منها المحتاج ولا يتألم من فقره أمامك ، والمعنى أن مقابلة المحتاج بكلام يسر وهيئة ترضي خير من الصدقة مع الإيذاء بسوء القول أو سوء المقابلة ، ولا فرق في المحتاج بين أن يكون فردا أو جماعة ، فإن مساعدة الأمة ببعض المال مع سوء القول في العمل الذي ساعدها عليه وإظهار استهجانه وبيان التقصير فيه أو تشكيك الناس في فائدة لا توازي هذه المساعدة . إحسان القول في ذلك العمل الذي تطلب له المساعدة والإغضاء عن التقصير الذي ربما يكون من العاملين فيه ، فكونك مع الأمة بقلبك ولسانك خير من شيء من المال ترضخ به مع القول السوء وفعل الأذى ، ومعنى هذه الخيرية أنه أنفع وأكثر فائدة لا أنه يقوم مقام البذل ويغني عنه ، فمن آذى فقد بغض نفسه إلى الناس بظهوره في مظهر البغضاء لهم ، ولا شك أن السلم والولاء ، خير من العداوة والبغضاء ، [ ص: 54 ] وأن أضمن شيء لمصلحة الأمة وأقوى معزز لها هو أن يكون كل واحد من أفرادها في عين الآخر وقلبه في مقام المعين له وإن لم يعنه بالفعل .

                          وأقول : إن هذه الآية مقررة لقاعدة: " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " التي هي من أعظم قواعد الشريعة ، ومبينة أن الخير لا يكون طريقا ووسيلة إلى الشر ، ومرشدة إلى وجوب العناية بجعل العمل الصالح خاليا من الشوائب التي تفسده وتذهب بفائدته كلها أو بعضها ، وإلى أنه ينبغي لمن عجز عن إحسان عمل من أعمال البر وجعله خالصا نقيا أن يجتهد في إحسان عمل آخر يؤدي إلى غايته حتى لا يحرم من فائدته بالمرة ، كمن شق عليه أن يتصدق لا يمن ولا يؤذي فحث على الصدقة أو جبر الفقير بقول المعروف . ومن البديهي أن أعمال البر والخير لا يغني بعضها عن بعض ، فكيف يغني ترك الشرك واتقاء المفاسد عن عمل الخير والقيام بالمصالح .

                          والله غني بذاته وبما له ملك السماوات والأرض عن صدقة عباده فلا يأمر الأغنياء بالبذل في سبيله لحاجة به ، وإنما يريد أن يطهرهم ويزكيهم ويؤلف بين قلوبهم ويصلح شئونهم الاجتماعية ليكونوا أعزاء بعضهم لبعض أولياء ، والمن والأذى ينافيان ذلك فهو غني عن قبول صدقة يتبعها أذى لأنه لا يقبل إلا الطيبات . حليم لا يعجل بعقوبة من يمن ويؤذي . قال الأستاذ الإمام : يطلق الحلم ويراد به هذا اللازم من لوازمه ; أي الإمهال وعدم المعاجلة بالمؤاخذة ، وقد يراد به لازم آخر هذا الإغضاء والعفو وليس بمراد هنا لأنه لو أريد لكان تحريضا على الأذى ولكل مقال مقام يعينه ، فالأول يطلق في مقابل العجول الطائش ، والثاني في مقابل الغضوب المنتقم . وفي الاسمين الكريمين تنفيس لكرب الفقراء وتعزية لهم وتعليق لقلوبهم بحبل الرجاء بالله الغني المغني ، وتهديد للأغنياء وإنذار لهم أن يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم وعدم معاجلتهم بالعقاب على كفرهم بنعمته عليهم بالمال ، فإنه يوشك أن يسلبها منهم في يوم من الأيام .

                          ثم إنه لما كانت النفوس مولعة بذكر ما يصدر عنها من الإحسان للتمدح والفخر وكان ذلك مطية الرياء ، وطريق المن والإيذاء ، لا سيما إذا آنس المصدق تقصيرا في شكره على صدقته أو احتقارا لها ، فإنه لا يكاد يملك حينئذ نفسه ويكفها عن المن أو الأذى كما تقدم عن الأستاذ الإمام ، كان من الهدى القويم ومقتضى البلاغة أن يؤتى في النهي عن المن والأذى والرياء بعبارات مختلفة لأجل التأثير في التنفير عن ذلك ، والحمل على تركه ولذلك قال :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية