الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            3211 - ( وعن معاوية بن الحكم السلمي قال : { قلت : يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام فإن منا رجالا يأتون الكهان ، قال : فلا تأتهم ، قال : ومنا رجال يطيرون ، قال : ذلك بشيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنكم ، قال : قلت : ومنا رجال يخطون ، قال : كان نبي من الأنبياء يخط ، فمن وافق خطه فذاك . } رواه أحمد ومسلم ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            هذا الحديث هو طويل حذف المصنف رحمه اللهما لا تعلق له بالمقام ، وقد تقدم في الصلاة طرف منه ، وفي العتق طرف آخر . قوله : ( فلا تأتهم ) فيه النهي عن إتيان الكهان ، وقد تقدم الكلام على ذلك قوله : ( يطيرون ) بفتح التحتية في أوله وتشديد الطاء المهملة وأصله يتطيرون أدغمت التاء الفوقية في الطاء ، والتطير : التشاؤم ، وأصله الشيء المكروه من قول أو فعل أو مرئي ، وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح ، فينفرون الظباء والطيور فإن أخذت ذات اليمين تبركوا به ومضوا في سفرهم وحوائجهم ، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم وتشاءموا ، فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم ، فنفى الشرع ذلك وأبطله ونهى عنه ، وأخبر أنه ليس له تأثير ينفع ولا يضر .

                                                                                                                                            [ ص: 217 ] وقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه من حديث ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { الطيرة شرك ثلاث مرات ، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل } قال الخطابي : قال محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - : كان سليمان بن حرب ينكر هذا ويقول : هذا الحرف ليس قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه قول ابن مسعود . وحكى الترمذي عن البخاري عن سليمان بن حرب نحو هذا ، وأن الذي أنكره هو " وما منا " ، قال المنذري : الصواب ما قاله البخاري وغيره أن قوله : " وما منا . . . إلخ " من كلام ابن مسعود . قال الحافظ أبو القاسم الأصبهاني والمنذري وغيرهما : في الحديث إضمار أي وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك ، يعني قلوب أمته . وقيل : معناه ما منا إلا من يعتريه التطير وتسبق إلى قلبه الكراهة ، فحذف اختصارا واعتمادا على فهم السامع ، وهذا هو معنى ما وقع في حديث الباب . قال : " ذلك بشيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنكم " .

                                                                                                                                            قال النووي في شرح مسلم : معناه أن كراهة ذلك تقع في نفوسكم في العادة ، ولكن لا تلتفتوا إليه ولا ترجعوا عما كنتم عزمتم عليه قبل هذا انتهى . وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم ضررا إذا عملوا بموجبه ، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى ، ومعنى إذهابه بالتوكل أن ابن آدم إذا تطير وعرض له خاطر من التطير أذهبه الله بالتوكل والتفويض إليه وعدم العمل بما خطر من ذلك ، فمن توكل سلم ولم يؤاخذه الله بما عرض له من التطير .

                                                                                                                                            وأخرج الشيخان وأبو داود من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة ، فقال أعرابي : ما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها ؟ قال : فمن أعدى الأول ؟ } قال معمر : قال الزهري : فحدثني رجل عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا يوردن ممرض على مصح ، قال : فراجعه الرجل فقال : أليس قد حدثتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا عدوى ولا صفر ولا هامة ؟ قال : لم أحدثكموه } قال الزهري : قال أبو سلمان : قد حدث به ، وما سمعت أبا هريرة بشيء حدثنا قط غيره ، هذا لفظ أبي داود .

                                                                                                                                            وقد أخرج حديث " لا عدوى . . . إلخ " مسلم وأبو داود من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة وأخرجه أيضا أبو داود من طريق أبي صالح عن أبي هريرة .

                                                                                                                                            وأخرج مسلم من طريق جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا عدوى ولا طيرة ولا غول } وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح } والفأل الصالح : الكلمة الحسنة . وأخرج أبو داود عن رجل عن أبي هريرة : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع كلمة فأعجبته فقال : أخذنا فألك من فيك } .

                                                                                                                                            وأخرج أبو داود عن عروة بن عامر القرشي [ ص: 218 ] قال : { ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أحسنها الفأل ولا ترد مسلما ، فإن رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بك } قال أبو القاسم الدمشقي : ولا صحبة لعروة القرشي تصح .

                                                                                                                                            وذكر البخاري وغيره أنه سمع من ابن عباس ، فعلى هذا يكون حديثه مرسلا . وقال النووي في شرح مسلم : وقد صح عن عروة بن عامر الصحابي رضي الله عنه ثم ذكر الحديث . وقال في آخره : رواه أبو داود بإسناد صحيح .

                                                                                                                                            وأخرج أبو داود والنسائي عن بريدة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء ، وكان إذا بعث غلاما سأل عن اسمه فإذا أعجبه اسمه فرح به ورئي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمه رئي كراهة ذلك في وجهه ، فإذا دخل قرية سأل عن اسمها فإن أعجبه اسمها فرح به ورئي بشر ذلك في وجهه ، وإن كره اسمها رئي كراهة ذلك في وجهه } وأخرج أبو داود عن سعد بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : { لا هامة ولا عدوى ولا طيرة ، وإن تكن الطيرة في شيء ففي الفرس والمرأة والدار } .

                                                                                                                                            وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { الشؤم في الدار والمرأة والفرس } وفي رواية لمسلم : { إنما الشؤم في ثلاث : المرأة والفرس والدار } .

                                                                                                                                            وفي رواية له : { إن كان الشؤم في شيء ففي الفرس والمسكن والمرأة } وفي رواية له أيضا : { إن كان الشؤم في شيء ففي الربع والخادم والفرس } .

                                                                                                                                            وأخرج أبو داود وصححه الحاكم عن أنس قال { : قال رجل : يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها عددنا ، كثير فيها أموالنا ، فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا . وقلت فيها أموالنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذروها ذميمة } .

                                                                                                                                            وأخرج مالك في الموطإ عن يحيى بن سعيد : { جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال ، فقال : دعوها فإنها ذميمة } وله شاهد من حديث عبد الله بن شداد بن الهاد أحد كبار التابعين ، أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح . قال النووي : اختلف العلماء في حديث " الشؤم في ثلاث " فقال مالك رحمه الله: هو على ظاهره ، وإن الدار قد يجعل الله تبارك وتعالى سكناها سببا للضرر أو الهلاك ، وكذا اتخاذ المرأة المعينة أو الفرس أو الخادم قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى . وقال الخطابي : قال كثيرون : هو في معنى الاستثناء من الطيرة : أي الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع ونحوه وطلاق المرأة .

                                                                                                                                            وقال آخرون : شؤم الدار : ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم ، وشؤم المرأة : عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها ، وقيل : حرانها وغلاء ثمنها وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوض [ ص: 219 ] إليه .

                                                                                                                                            وقيل : المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة . قال القاضي عياض : قال بعض العلماء : لهذه الفصول السابقة في الأحاديث ثلاثة أقسام : أحدها : ما لم يقع الضرر به ولا اطردت به عادة خاصة ولا عامة فهذا لا يلتفت إليه ، وأنكر الشرع الالتفات إليه وهو الطيرة ، والثاني : ما يقع عنده الضرر عموما لا يخصه ونادرا لا يتكرر كالوباء فلا يقدم عليه ولا يخرج منه . والثالث : يخص ولا يعم كالدار والفرس والمرأة ، فهذا يباح الفرار منه ا هـ . والراجح ما قاله مالك ، وهو الذي يدل عليه حديث أنس الذي ذكرنا فيكون حديث الشؤم مخصصا لعموم حديث " لا طيرة " فهو في قوة لا طيرة إلا في هذه الثلاث . وقد تقرر في الأصول أنه يبنى العام على الخاص مع جهل التاريخ ، وادعى بعضهم أنه إجماع ، والتاريخ في أحاديث الطيرة والشؤم مجهول ، وما حكاه القاضي عياض في كلامه السابق أن الوباء لا يخرج منه ولا يقدم عليه فلعله يتمسك بحديث النهي عن الخروج من الأرض التي ظهر فيها الطاعون ، والنهي عن دخولها ، كما في حديث أسامة بن زيد عند البخاري ومسلم ومالك في الموطإ والترمذي . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها ، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها } .

                                                                                                                                            وقد أخرج أبو داود عن يحيى بن عبد الله بن بحير قال : أخبرني من سمع فروة بن مسيك رضي الله عنه قال : { قلت : يا رسول الله أرض عندنا يقال لها أرض أبين هي أرض ريفنا وميرتنا وإنها وبئة ، أو قال : وباؤها شديد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعها عنك فإن من القرف التلف } ا هـ . والقرف بفتح القاف والراء بعدها فاء : وهو ملابسة الداء ومقاربة الوباء ومداناة المرضى وكل شيء قاربته فقد قارفته ، والتلف : الهلاك ، يعني من قارب متلفا يتلف إذا لم يكن هواء تلك الأرض موافقا له فيتركها . قال ابن رسلان : وليس هذا من باب العدوى بل هو من باب الطب ، فإن استصلاح الهواء من أعون الأشياء على صحة الأبدان ، وفساد الهواء من أسرع الأشياء إلى الأسقام .

                                                                                                                                            قال : واعلم أن في المنع من الدخول إلى الأرض الوبئة حكما . أحدها : تجنب الأسباب المؤذية والبعد منها . الثاني : الأخذ بالعافية التي هي مادة مصالح المعاش والمعاد . الثالث : أن لا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن وفسد فيكون سببا للتلف . الرابع : أن لا يجاور المرضى الذين قد مرضوا بذلك فيحصل له بمجاورتهم من جنس أمراضهم ، والحديث يدل على هذا . ا هـ . قال المنذري في مختصر السنن بعد أن ذكر حديث فروة المذكور ما لفظه : في إسناده رجل مجهول . قال : ورواه عبد الله بن معاذ الصنعاني عن معمر بن راشد عن يحيى بن عبد الله بن بحير عن فروة ، وأسقط المجهول ، وعبد الله بن معاذ وثقه يحيى بن معين وغيره ، وكان عبد الرزاق يكذبه . ا هـ . ورجال إسناد هذا الحديث ثقات لأنه رواه أبو داود عن مخلد بن خالد شيخ مسلم [ ص: 220 ] وعباس العنبري شيخ البخاري تعليقا ومسلم قالا : حدثنا عبد الرزاق عن معمر وهما من رجال الصحيحين عن يحيى بن عبد الله بن بحير ، ذكره ابن حبان في الثقات . ومما ينبغي أن يجعل مخصصا لعموم حديث : { لا عدوى ولا طيرة } ما أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي وابن ماجه في سننهما من حديث الشريد بن سويد الثقفي ، قال : { كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إنا قد بايعناك فارجع } . وأخرج البخاري في صحيحه تعليقا من حديث سعيد بن ميناء قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد } ومن ذلك " حديث { لا يورد ممرض على مصح } الذي قدمناه . قال القاضي عياض : قد اختلفت الآثار عن النبي في قصة المجذوم ، فثبت عنه الحديثان المذكوران . وعن جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع مجذوم ، وقال له : كل ثقة بالله تبارك وتعالى وتوكلا عليه } . وعن عائشة قالت : كان لنا مولى مجذوم فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي . قال : وقد ذهب عمر وغيره من السلف إلى الأكل معه ، ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ ، والصحيح الذي قاله الأكثرون ويتعين المصير إليه أنه لا نسخ ، بل يجب الجمع بين الحديثين ، وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط .

                                                                                                                                            وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز والله أعلم ، كذا في شرح مسلم للنووي . والحديث الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه . قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث يوسف بن محمد عن المفضل بن فضالة ، وهذا شيخ بصري ، والمفضل بن فضالة شيخ مصري أوثق من هذا وأشهر . وروى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد عن أبي بريدة أن عمر أخذ بيد مجذوم ، وحديث شعبة أشبه عندي وأصح . قال الدارقطني : تفرد به مفضل بن فضالة البصري أخو مبارك عن حبيب بن الشهيد عنه يعني عن ابن المنكدر . وقال ابن عدي الجرجاني : لا أعلم يرويه عن حبيب بن الشهيد غير مفضل بن فضالة ، وقالوا : تفرد بالرواية عنه يونس بن محمد . ا هـ . والمفضل بن فضالة البصري كنيته أبو مالك . قال يحيى بن معين : ليس بذاك . وقال النسائي : ليس بالقوي . وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ، وذكره ابن حبان في الثقات . قال القاضي عياض : قال بعض العلماء في هذا الحديث وما في معناه ، يعني حديث الفرار من المجذوم دليل على أن يثبت للمرأة الخيار في فسخ النكاح إذا وجدت زوجها مجذوما أو حدث به جذام . قال النووي : واختلف أصحابنا وأصحاب مالك في أن أمته هل لها منع نفسها من استمتاعه إذا أرادها ؟ قال القاضي : قالوا : ويمنع من المسجد والاختلاط بالناس .

                                                                                                                                            قال : وكذلك اختلفوا في أنهم إذا كثروا هل يؤمرون أن يتخذوا لأنفسهم موضعا [ ص: 221 ] منفردا خارجا عن الناس ، ولا يمنعون من التصرف في منافعهم ، وعليه أكثر الناس . أم لا يلزمهم التنحي ، قال : ولم يختلفوا في القليل منهم ; يعني في أنهم لا يمنعون ، قال : ولا يمنعون من صلاة الجمعة مع الناس ، ويمنعون من غيرها . قال : ولو استضر أهل قرية فيهم جذمى بمخالطتهم في الماء ; فإن قدروا على استنباط ماء بلا ضرر أمروا به ، وإلا استنبطه لهم الآخرون ، أو أقاموا من يستقي لهم وإلا فلا يمنعون .

                                                                                                                                            قال النووي في شرح مسلم في حديث : { لا يورد ممرض على مصح } : قال العلماء : الممرض صاحب الإبل المراض ، والمصح صاحب الإبل الصحاح فمعنى الحديث لا يورد صاحب الإبل المراض إبله على إبل صاحب الإبل الصحاح ; لأنه ربما أصابها المرض بفعل الله تعالى وقدره الذي أجرى به العادة لا بطبعها ، فيحصل لصاحبها ضرر بمرضها ، وربما حصل له ضرر أعظم من ذلك باعتقاد العدوى بطبعها ، فيكفر . والله أعلم . انتهى . وأشار إلى نحو هذا الكلام ابن بطال ، وقيل : النهي ليس للعدوى بل للتأذي بالرائحة الكريهة ونحوها ، حكاه ابن رسلان في شرح السنن . وقال ابن الصلاح : ووجه الجمع أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها ، لكن الله سبحانه جعل مخالطة المريض للصحيح سببا لإعدائه مرضه ، ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في غيره من الأسباب .

                                                                                                                                            قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة : والأولى في الجمع أن يقال : إن نفيه صلى الله عليه وسلم للعدوى باق على عمومه ، وقد صح قوله : { لا يعدي شيء شيئا } قوله صلى الله عليه وسلم لمن عارضه بأن البعير الأجرب يكون بين الإبل الصحيحة ، فيخالطها ، فتجرب - حيث رد عليه بقوله : " فمن أعدى الأول ؟ " يعني أن الله سبحانه ابتدأ ذلك في الثاني كما ابتدأه في الأول . قال : وأما الأمر بالفرار من المجذوم فمن باب سد الذرائع لئلا يتفق للشخص الذي يخالطه شيء من ذلك ، بتقدير الله تعالى ابتداء لا بالعدوى المنفية ، فيظن أن ذلك بسبب مخالطته ، فيعتقد صحة العدوى ، فيقع في الحرج فأمر بتجنبه حسما للمادة . انتهى .

                                                                                                                                            والمناسب للعمل الأصولي في هذه الأحاديث المذكورة في الباب هو أن يبنى عموم " لا عدوى ولا طيرة " على الخاص ، وهو ما قدمنا من حديث { الشؤم في ثلاث } ، وحديث : { فر من المجذوم } ، وحديث : { لا يورد ممرض على مصح } ، وما في معناها . وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في جواب سؤال سميناه : إتحاف المهرة بالكلام على حديث { لا عدوى ولا طيرة } . قوله : ( ومنا رجال يخطون ) ; قال ابن عباس في تفسير هذا الخط : هو [ ص: 222 ] الخط الذي يخطه الحازي . والحازي بالحاء المهملة والزاي : هو الحزاء ، وهو الذي ينظر في المغيبات بظنه ، فيأتي صاحب الحاجة إلى الحازي فيعطيه حلوانا ، فيقول : اقعد حتى أخط لك ، وبين يدي الحازي غلام له معه مثل ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط فيها خطوطا كثيرة في أربعة أسطر عجلا ، ثم يمحو منها على مهل خطين خطين ; فإن بقي خطان فهو علامة النجح ، وإن بقي خط واحد فهو علامة الخيبة . هكذا في شرح السنن لابن رسلان . قال : وهذا علم معروف فيه للناس تصانيف كثيرة ، وهو معمول به إلى الآن ، ويستخرجون به الضمير . وقال الحربي : الخط في الحديث هو أن يخط ثلاثة خطوط ثم يضرب عليهن ويقول : يكون كذا وكذا ، وهو ضرب من الكهانة

                                                                                                                                            قوله : ( كان نبي من الأنبياء يخط ) قيل : هو إدريس عليه السلام . حكى مكي في تفسيره أن هذا النبي كان يخط بأصبعيه السبابة والوسطى في الرمل ، ثم يزجر . قوله : ( فمن وافق خطه فذاك ) بنصب الطاء على المفعولية ، والفاعل ضمير يعود إلى لفظ من ، قال الخطابي : هذا يحتمل الزجر عنه إذ كان علما لنبوته ، وقد انقطعت فنهينا عن التعاطي لذلك . قال القاضي عياض : الأظهر من اللفظ خلاف هذا ، وتصويب خط من يوافق خطه ، لكن من أين تعلم الموافقة والشرع منع من ادعاء علم الغيب جملة ، وإنما معناه : من وافق خطه فذاك الذي تجدون إصابته لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله على ما تأوله بعضهم . ا هـ . ولو قيل : إن قوله : فذاك ، يدل على الجواز لكان جوازه مشروطا بالموافقة ، ولا طريق إليها متصلة بذلك النبي ; فلا يجوز التعاطي .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية