الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الفصل التاسع : في الاستخلاف

                                                                                                                وهو جائز عندنا وعند ابن حنبل وللشافعي قولان ، وفرق ح بين طرو الحدث عليه فيستخلف ، وبين تذكره فقال : إنما يستخلف من أحرم ظاهرا . لنا ما رواه مالك أنه - عليه السلام - ذهب إلى بني عمرو بن عوف ; ليصلح بينهم فجاءت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فقال : أتصلي بالناس فأقيم ؟ قال : نعم فصلى أبو بكر فجاء النبي - عليه السلام - والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف وساق الحديث إلى أن قال : ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف ، وتقدم - عليه السلام - فصلى ، الحديث . فقد رجع [ ص: 280 ] - عليه السلام - إماما بعد أبي بكر ، وقياسا على ولاية القضاء وغيرها بجامع تحصيل المصلحة ورفع المنازعة ، حجة المنع ما في الموطأ أنه - عليه السلام - صلى بأصحابه ، فلما أحرم بالصلاة ذكر أنه جنب فقال لأصحابه : كما أنتم ومضى ورجع ورأسه يقطر ماء ولم يستخلف . جوابه أنه دليل الجواز ونحن نقول به وهذا الحديث حجة على أبي حنيفة في أن تقدم الجنابة لم يمنع الاقتداء به ، وإذا صح الاقتداء في الحالتين صح الاستخلاف فيهما قياسا لإحداهما على الأخرى ، والنظر في محله وصفته وصفة المستخلف وفعله ، فهي أربعة :

                                                                                                                الأول : محله ففي الجواهر هو إذا طرأ على الإمام ما يمنعه الإمامة ويبطل الصلاة فالأول كتقصيره عن فرض فإنه يصلي مأموما خلف النائب ، قال المازري : ولو حصر عن بعض السورة بعد الحمد لم يكن له عندي الاستخلاف لصحة الصلاة ، والثاني كغلبة الحدث ، أو تذكره ، أو الرعاف الذي يقطع لأجله . قال صاحب الطراز : وأحوال الرعاف ثلاثة ، إن كان غير قاطر ولا سائل فخرج أفسد عليهم ، وإن كثر الدم فتمادى أفسد عليهم ، وإن سال ولم يكثر جاز الخروج والبناء .

                                                                                                                الثاني : صفة الاستخلاف ففي الجواهر : الأولى أن يستخلف بالإشارة فإن استخلف بالكلام فلا شيء عليه ; لأنه بالخروج خرج عن كونه إماما وكذلك قال في الكتاب : إن تكلم فيما لا يبني عليه كالحدث فلا يضرهم ، أو فيما يبني عليه أبطل على نفسه . قال صاحب الطراز : يريد ولا يضرهم . قال : وقال ابن حبيب : إن استخلف بالكلام جهلا أو عمدا أبطل عليه وعليهم ، فإن كان ساهيا فعليه فقط وبهذا قال من لقيته من أصحاب مالك ، وقال اللخمي : [ ص: 281 ] للمأمومين استخلاف غير من استخلفه الإمام ; لأنهم إنما التزموا اتباعه ، ولذلك لا يجب القبول على المستخلف قال في الكتاب : إن لم يستخلف يقدموا رجلا يصلي بهم ، فإن قدمت كل طائفة إماما ، قال أشهب في العتبية : يجزيهم ، وقد أخطأت الثانية ، كقوم دخلوا على قوم يصلون فصلوا بإمام أساءوا ويجزئهم ، قال ابن القاسم في الكتاب : فإن صلوا وحدانا جاز ولا يعجبني ، قال صاحب الطراز : قال ابن عبد الحكم : من ابتدأ الصلاة بإمام فأتمها فذا أو أفذاذا فأتمها بإمام أعاد ، والأول بين فإن الجماعة فضيلة لا شرط ، وألحقها ابن عبد الحكم بالنافلة فتعين بالشروع ، وجوابه أن الفضيلة التي التزموها فاتت بفوات سببها كالنافلة إذا فاتت بغير تفريط ، قال : فلو أشار إليهم عند الخروج أن امكثوا فظاهر المذهب جواز الاستخلاف لهم ، وقال ابن نافع : ليس لهم ذلك للحديث الوارد في خروجه - عليه السلام - لما ذكر الجنابة ، والحديث غير متفق عليه فروى مالك أنه - عليه السلام - كبر وكبروا ، وغيره لم يذكر ذلك ، وروى أبو داود أنه - عليه السلام - قام في مصلاه فانتظر أن يكبر فانصرف ، ثم قال : كما أنتم ، قال مالك : وهذا الحديث خاص به عليه السلام ; لأنه - عليه السلام - أوجب تقدم تكبيرة الإمام وهي هاهنا متأخرة ، وفي الجواهر إن صلوا وحدانا في الجمعة بطلت على المشهور سواء عقدوا معه ركعة أم لا . قال صاحب الطراز : وينبغي له إذا أحدث أن يضع يده على أنفه ويخرج ولا يتكلم يوهم أنه رعف ، وتنقطع عنه الظنون ، وهو مروي عنه - عليه السلام - في مسلم [ ص: 282 ] يستخلف من الصف الذي يليه لقربه من التقدم إلى مقام الإمام ، ولذلك قال عليه السلام : ليليني منكم أولو الأحلام والنهى . فإن قال : تقدم يا فلان ، قال : نعم ساهيا ، قال ابن حبيب : سجد بعد السلام ، قال : فإن قيل ينبغي ألا يسجدوا معه ; لأنه سهو قبل الاقتداء قلنا : إذا وقع الاقتداء اتصل بالأول كالمسبوق في سهو المتقدم عليه ، فإن تقدم غير المستخلف فصلى المقدم خلفه ، قال سحنون : يجزيهم ; لأن المقدم لا يكون إماما حتى يشرع في عمل الصلاة ، ويتبع ، ولو قال : تقدم يا فلان وهو اسم لاثنين فتقدم غير المراد أو تقدما بطائفتين أجزأ على قول سحنون ، إلا في الجمعة إذا تقدما ; لأنه لا جمعتان في موضع ، ويتعين أسبقهما فإن استويا لم يجز واحدا منهما فإن استخلف ، ثم عاد بعد زوال العذر لم يتبع وله إخراجه ، فإن أخرجه قبل أن يحرم لم يجز وتفسد صلاتهم إن اتبعوه ، وصلاته إن أدى دخوله إلى الجلوس بعد ركعة ونحوه مما لم يجز للمنفرد ، وإن أخرجه بعد الإحرام فكرهه ابن القاسم وينبغي إذا تمت صلاته أن يشير إليهم حتى يقضي لنفسه ، ثم يسلم ويعضده حديث أبي بكر - رضي الله عنه - وأما لو أحدث الثاني فقدم الأول جاز ، وقال يحيى بن عمر : لا يجوز وفعله - عليه السلام - مع أبي بكر خاص به ، قال صاحب الطراز : يجوز ; لأنه لا بد أن يجدد نية الإمامة فهو كسائر الجماعة ، ولهذا يلحقه [ ص: 283 ] سهو خليفته الكائن قبل رجوعه ولو أخرج خليفته على الكراهة في ذلك فله رده وأن يخرج لترك المكروه ، كما فعل الصديق - رضي الله عنه - ولو أخرجه وبنى على صلاة نفسه دون صلاة خليفته ، قال ابن القاسم : عليهم الإعادة اتبعوه أم لا ; لأنهم تركوا اتباع إمامهم من غير استخلاف .

                                                                                                                الثالث : صفة المستخلف ، وفي الجواهر لا بد أن يكون تصح إمامته ، وانسحب عليه حكم الإمام قبل طرو العذر وما يفعله بعد الأول يعتد به من صلاة نفسه ، فأما من أحرم بعد العذر إن استخلفه على ركعة أو ثلاث بطلت صلاته ; لجلوسه في غير موضع الجلوس وهو أحرم بالصلاة لنفسه ، وإن استخلفه على ركعتين فصلاته تامة ، وقال ابن حبيب : إن قدمه في أول ركعة فصلاته صحيحة وتبطل صلاتهم ، وإن كان بعد ركعة فأكثر يعمل على بناء صلاة الأول بطلت صلاته وصلاتهم ، قال صاحب الطراز : وظاهر المذهب أنه لا يصير خليفة حتى يتبع ، فلو أحدث عامدا أو تكلم عامدا بعد قوله يا فلان صل بالناس أو قبل الاتباع لم تفسد عليهم ; لأن الحاصل قبل ذلك إنما هو اعتقاد الاتباع فليس بإمام ، قال ابن القاسم في العتبية : إذا سأل بعد الاستخلاف كيف يصنع بطلت صلاته وصلاتهم ، ومن دخل معه بعد الرفع تبطل صلاتهم إن استخلف ، واتبعوه عند ابن القاسم ; لأنه متنفل ، وقال يحيى بن عمر : تجزيهم ; لأنها تعينت عليه حتى لو تركها فسدت صلاته . وفي الجواهر إذا أم مسافر بالفريقين فليستخلف مسافرا ; لأن صلاة المقيم خلف [ ص: 284 ] المسافر أخف من المسافر خلف المقيم ، فإن قدم مقيما لم يقبل وقدم مسافرا فإن قبل جاهلا وأتم صلاة الإمام سلم المسافرون أنفسهم ، وقيل يستخلفون مسافرا يسلم بهم ، وقيل يثبتون حتى يسلموا بسلامه ، قال ابن القاسم في العتبية : إذا صلى برجل وامرأتين فأحدث ، ولم يستخلف فنوى الرجل الإمامة بالمرأتين صحت صلاتهم .

                                                                                                                الرابع : في فعل المستخلف وفيه فروع أربعة :

                                                                                                                الأول : قال في الكتاب : إذا قدم من فاتته ركعة فصلاها جلس ; لأنها ثانية الإمام ، ويجتزئ بما قرأ الإمام ، قال صاحب الطراز : هذا حقيقة التبعية ، ولأنه بإحرامه خلفه وجب عليه اتباع ما أدرك من غير استخلاف فكيف إذا استخلف حتى لو أحدث الإمام فخرج وليس معه غيره ، جرى على ترتيب ما كان دخل عليه وأخر قضاء ما فاته حتى يفرغ مما أدركه ، وفي بنائه على القراءة ثلاثة أقوال ، ثالثها يفرق بين أن يستخلف فلا يبني ، وبين أن يتقدم بنفسه فيبني ، والمدرك أن القراءة هل يجوز أن يكون فيها إماما ومأموما أم لا ؟ وأنه إذا استخلف انتفى التناقض لطريان السبب فإن ابتدأ الصلاة بإحرام عمدا ، قال سحنون : بطلت صلاته وصلاتهم ; لتعديه في إبطال العمل واتباعهم [ ص: 285 ] له فإنه بمجرد رفضه ، خرج عن كونه إماما ، وإن كانا سهوا وكثرت الزيادة ، فكذلك وإن قلت سجد للسهو وصحت ، فإن قطع بسلام أو كلام وابتدأ فإن اتبعوه بطلت عليهم ، وفي الكتاب إذا أتم صلاة الأول يثبتون حتى تكمل صلاته ويسلم بهم ، وقال الشافعي : يسلمون ، قال : ويتخرج على مسألة المسافرين مع الخليفة المقيم أن هؤلاء يسلمون ، وفي الجواهر وقيل يستخلفون من يسلم بهم منهم فإن كان فيهم مسبوق ، قال أبو الحسن اللخمي : هو مخير بين أربعة أحوال : يصلي وينصرف قياسا على الطائفة الأولى في صلاة الخوف ، أو يستخلف من يسلم بهم ، أو ينتظر الإمام فيسلم معه ; لأن كليهما قاض والسلامان واحد ، أو ينتظر فراغ الإمام من قضائه ، ثم يقضي .

                                                                                                                الثاني : في الكتاب إذا أحدث وهو راكع يرفع بهم الثاني ، وقال في المجموعة : في السجود مثله ، وقال ابن القاسم في العتبية : يدب الثاني راكعا ، وقال : يرفع فيها رأسه ويستخلف ; لأن بقاءه على تلك الحال يؤدي إلى الاستدامة في الفاسد وهو أهون له في الاستخلاف ، وفي الجواهر لا يكبر ; لئلا يوهم فإن اقتدوا به في الرفع ، قال أبو الطاهر : يتخرج ذلك على الخلاف في الحركة إلى الأركان هل هي مقصودة فتبطل أو غير مقصودة فلا تبطل ؟ وقال بعض [ ص: 286 ] المتأخرين : بل هم كالرافعين قبل إمامهم فيرجعون إلى الركوع مع الثاني ، وفي النوادر يستخلف قبل الرفع ليتصل الاستخلاف بالفعل الصحيح .

                                                                                                                الثالث : قال صاحب الطراز : لو استخلفه على ركعتين فصلاهما فأخبره بترك سجدة من إحدى الأوليين ، قال سحنون : يقوم الثاني بالقوم إن كانوا على شك يصلي بهم ركعة بالحمد فقط ; لأنها بناء ، ثم يجلس ويأتي بركعة قضاء بالحمد وسورة ويسجدون قبل السلام معه ، وقيل يسجد بهم قبل ركعة القضاء فإن تيقن القوم الإتمام ، قال ابن عبدوس : لا يتبعونه في الأولى ، وعلى مذهب ابن وهب يأتي بركعة بالحمد وسورة ويسجد بهم بعد السلام على قاعدته فيمن ذكر في آخر صلاته خللا في أولها ، ولو شك الأول في السجدة ، قال سحنون : يقرأ بالحمد وسورة لاحتمال الصحة فتكون هذه الركعة قضاء وكذلك الثانية ويتشهد في الأولى ; لاحتمال كونها بناء ورابعة الأول ويصلونها معه إن شكوا ويسجدون قبل السلام ، قال : والقياس فيما قاله أن يبني المستخلف إذا شك الأول على أن الفائت ركعة ; لأن الأول لو كان باقيا حينئذ احتسب بركعة فقط فلو لم يخبره بالركعة حتى فرغ ، قال سحنون : صلاة المستخلف تامة ويسجد بهم قبل السلام ; لأنه قام في موضع الجلوس وترك السورة ، فإن ثالثته ثانية الأول فإن سلموا أتوا بركعة بالحمد فقط ، وسجدوا للسهو خوفا من زيادتها ، وإن تيقنوا ترك السجدة لم يسجدوا فلو أنه معه من أول الصلاة فاستخلفه على اثنتين ، ثم ذكر السجدة فإن شك معهم صلى بهم ركعة بالحمد [ ص: 287 ] فقط وسجد بهم قبل السلام ، وإن لم يشكوا صحت صلاتهم ، فلو ذكر الثاني سجدة لا يدري هل هي مما صلى مع الأول أو مما قضي ؟ قال سحنون : سجد سجدة وتشهد وأتى بركعتين بالحمد فقط ، وسجد قبل السلام ; لأنه نقص وزاد ويعيد الصلاة لكثرة السهو ، وكذلك قال مالك فيمن شك في آخر صلاته في سجدتين من ركعتين ولو أحرم معه في التشهد ، فلما قضى ركعة ذكر الأول سجدة من الأولى ، فإن رجع في وقت يجوز فيه البناء بطلت ركعته ويصلي بالقوم ركعة بالحمد فقط ، ويقضي لنفسه ثلاث ركعات ويسجد بهم قبل السلام ، وإن لم يجز فيه البناء الثاني لم يركع فبنى على ركعته وسجد قبل السلام ، وإن استخلفه على ركعتين فلما صلاهما قال الأول : تركت سجدتين لا أدري من ركعة أو ركعتين فإنه يصلي ركعتين ولا يقوموا في الرابعة معه ; لاحتمال كونهما من ركعة فيصير في الرابعة قاضيا لا يؤتم به ، ولا يرجع الثاني إلى الجلوس ويسجد بهم قبل السلام ، ثم يأتون بركعة بعد سلامه ويسلمون ، ويسأل الأول فإن ذكر أنهما من ركعة أجزتهم فإن كانتا من ركعتين أعادوا ; لتركهم اتباع الثاني ، ولو اتبعوه وأعادوا الصلاة لكان حسنا ، ولو لم يرجع الأول حتى يجلس في آخر ركعتي القضاء سجد بهم قبل السلام وأتى [ ص: 288 ] بعده بركعتين بالحمد فقط ، ولو رجع بعد أن صلى بهم ركعة وقام فذكر له سجدة من إحدى ركعتيه صارت الثالثة ثانية وهو يجلس فيها فيأتي بركعة بناء ، ثم يتشهد ويسجد بهم قبل السلام ، ثم يأتي بركعة قضاء بالحمد وسورة ، ولو قال له ذلك حين قدمه سجد بهم سجدة ، ثم بنى على ركعة ، ثم يعيد من خلفه ; لاحتمال إصابة السجدة موضعها .

                                                                                                                الرابع : في الجواهر لو لم يذكر كم صلى الأول ومن خلفه يعلم ذلك ، أشار إليهم فيجيبوه بالإشارة فإن لم يفهم ومضى في صلاته سبحوا به حتى يفهم ، فإن لم يجد بدا من الكلام تكلم ، وقال سحنون : ينبغي أن يقدم من يعلم فإن تمادى وصلى ركعة فليوهم القيام ، فإن سبحوا به وجلس وتشهد ويوهم القيام ، فإن سبحوا به قام واعتقدها ثالثة .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية