الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سلطنة الملك منصور لاجين السلحدار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذلك أنه لما استاق الخزانة ، وذهب بالجيوش إلى الديار المصرية دخلها في أبهة عظيمة ، وقد اتفق مع جمهور الأمراء الكبار ، وبايعوه وملكوه عليهم ، وجلس على سرير الملك يوم الجمعة عاشر صفر ، ودقت بمصر البشائر ، وزينت البلد ، وخطب له على المنابر وبالقدس والخليل ، ولقب بالملك المنصور ، وكذلك بالكرك ونابلس وصفد ، وذهبت إليه طائفة من أمراء دمشق ، وقدمت الجريدة من جهة الرحبة صحبة الأمير سيف الدين كجكن ، فلم يدخلوا البلد بل نزلوا [ ص: 695 ] بميدان الحصى ، وأظهروا مخالفة العادل وطاعة المنصور لاجين بمصر ، وركب إليه الأمراء طائفة بعد طائفة ، وفوجا بعد فوج ، فضعف أمر العادل جدا . فلما رأى انحلال أمره قال للأمراء : هو خشداشي ، وأنا وهو شيء واحد ، وأنا له سامع مطيع ، وأنا أجلس في أي مكان من القلعة أراد ، حتى تكاتبوه وتنظروا ما يقول . وجاءت البريدية بالمكاتبات بأمر الاحتياط على القلعة وعلى الملك العادل ، وبقي الناس في هرج وأقوال مختلفة ، وأبواب القلعة مغلقة ، وأبواب المدينة سوى باب النصر إلا الخوخة ، والعامة حول القلعة قد ازدحموا حتى سقطت طائفة منهم في الخندق ، فمات بعضهم ، وأمسى الناس عشية السبت ، وقد أعلن باسم الملك المنصور لاجين ، ودقت البشائر بذلك بعد العصر ، ودعا له المؤذنون في سحر ليلة الأحد بجامع دمشق ، وتلوا قوله تعالى : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء [ آل عمران : 26 ] .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأصبح الناس يوم الأحد ، فاجتمع القضاة والأمراء ، وفيهم غرلو العادلي بدار السعادة ، فحلفوا للمنصور لاجين ، ونودي بذلك في البلد ، وأن يفتح الناس دكاكينهم ، واختفى الصاحب شهاب الدين وأخوه زين الدين المحتسب ، فعمل الوالي ابن النشابي حسبة البلد ، ثم ظهر زين الدين ، فباشرها على عادته . وكذلك ظهر أخوه شهاب الدين ، وسافر الأمير سيف الدين غرلو وسيف الدين جاغان إلى الديار المصرية يعلمان السلطان بوقوع التحليف على ما رسم به ، [ ص: 696 ] وجاء كتاب السلطان أنه جلس على السرير يوم الجمعة عاشر صفر ، وشق القاهرة في سادس عشرة في أبهة المملكة وعليه الخلعة الخليفية ، والأمراء بين يديه مشاة ، وأنه قد استناب بمصر الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري ، وخطب للمنصور لاجين بدمشق أول يوم من ربيع الأول ، وحضر المقصورة القضاة وشمس الدين الأعسر وكجكن وأسندمر وجماعة من أمراء دمشق ، وتوجه القاضي إمام الدين القزويني وحسام الدين الحنفي وجمال الدين المالكي إلى الديار المصرية مطلوبين ، وقدم الأمير حسام الدين أستاذدار السلطان ، وسيف الدين جاغان من جهة السلطان ، فحلف الأمراء ثانية ، ودخلوا على العادل إلى القلعة ، ومعهم القاضي بدر الدين بن جماعة وكجكن ، فحلفوه أيمانا مؤكدة بعد ما طال بينهم الكلام بالتركي ، وذكر في حلفه أنه راض بما يعينه له من البلدان أي بلد كان ، فوقع التعيين بعد اليمين على قلعة صرخد ، وجاءت المراسيم بالوزارة لتقي الدين توبة ، وعزل شهاب الدين الحنفي ، وبالحسبة لأمين الدين يوسف الأرمني الرومي صاحب شمس الدين الأيكي ، عوضا عن زين الدين الحنفي ، أخي شهاب الدين الذي كان وزيرا ، ودخل الأمير سيف الدين قبجق المنصوري على نيابة الشام إلى دمشق بكرة السبت السادس عشر من ربيع الأول ، ونزل دار السعادة عوضا عن غرلو العادلي ، وقد خرج الجيش بكماله لتلقيه ، وحضر يوم الجمعة إلى المقصورة ، فصلى بها وقرئ بعد الجمعة [ ص: 697 ] كتاب السلطان بإبطال الضمانات من الأوقاف والأملاك بغير رضا أصحابها ، قرأه القاضي محيي الدين بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء ، ونودي في البلد : من له مظلمة فليأت يوم الثلاثاء إلى دار العدل . وخلع على الأمراء والمقدمين وأرباب المناصب من القضاة والكتبة وغيرهم ، وخلع على ابن جماعة خلعتين; واحدة للقضاء والأخرى للخطابة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان في شهر جمادى الآخرة وصل البريد فأخبر بولاية إمام الدين القزويني قضاء القضاة بالشام عوضا عن بدر الدين بن جماعة ، وإبقاء ابن جماعة على الخطابة ، وأضيف إليه تدريس القيمرية التي كانت بيد إمام الدين ، وجاء كتاب السلطان بذلك ، وفيه احترام وإكرام له ، فدرس بالقيمرية يوم الخميس ثاني رجب ، ودخل إمام الدين إلى دمشق عقيب صلاة الظهر يوم الأربعاء الثامن من رجب فجلس بالعادلية ، وحكم بين الخصوم ، وامتدحه الشعراء بقصائد ، منها قصيدة لبعضهم يقول في أولها :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تبدلت الأيام من عسرها يسرا فأضحت ثغور الشام تفتر بالبشرى

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان حال دخوله عليه خلعة السلطان ، ومعه القاضي جمال الدين الزواوي قاضي قضاة المالكية وعليه خلعة أيضا ، وقد شكر سيرة إمام الدين في السفر ، وذكر من حسن أخلاقه ورياضته ما هو حسن جميل ، ودرس بالعادلية بكرة الأربعاء منتصف رجب ، وأشهد عليه بعد الدرس بتولية أخيه جلال الدين نيابة [ ص: 698 ] الحكم ، وجلس في الإيوان الصغير وحكم ، وألبسه أخوه خلعة وجاء الناس يهنئونه ، وقرئ تقليده يوم الجمعة بالشباك الكمالي بعد الصلاة بحضرة نائب السلطنة وبقية القضاة ، قرأه شرف الدين الفزاري .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي شعبان وصل الخبر بأن شمس الدين الأعسر تولى بالديار المصرية شد الدواوين والوزارة ، وباشر المنصبين جميعا ، وباشر نظر الدواوين بدمشق فخر الدين بن الشيرجي عوضا عن نجم الدين بن صصرى ، ثم عزل بعد قليل بشهر أو أقل بأمين الدين بن هلال ، وأعيدت الشامية البرانية إلى الشيخ زين الدين الفارقي مع الناصرية بسبب غيبة كمال الدين بن الشريشي بالقاهرة ، ودرس فيها في شهر رمضان يوم اثنين بعد العصر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي الرابع عشر من ذي القعدة مسك الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب الديار المصرية للاجين هو وجماعة من الأمراء معه ، واحتيط على حواصلهم وأموالهم بمصر والشام ، وولى السلطان نيابة مصر الأمير سيف الدين منكوتمر الحسامي ، وهؤلاء الأمراء الذين مسكهم هم الذين كانوا قد أعانوه وبايعوه على العادل كتبغا ، وقدم الشيخ كمال الدين بن الشريشي من الديار المصرية ومعه توقيع بتدريس الناصرية عوضا عن الشامية البرانية ، ودرس فيها يوم السبت يوم عرفة ، وأمسك الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وزير مصر وشاد الدواوين يوم السبت الثالث والعشرين من ذي الحجة ، واحتيط على أمواله وحواصله بمصر والشام أيضا ، ونودي بمصر في ذي الحجة أن لا يركب أحد من أهل الذمة فرسا [ ص: 699 ] ولا بغلا ، ومن وجد منهم راكبا ذلك أخذ منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها ملك اليمن السلطان الملك المؤيد هزبر الدين داود بن الملك المظفر المتقدم ذكره في التي قبلها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية