الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته لقول الله تعالى قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقال النبي صلى الله عليه وسلم كلكم راع ومسئول عن رعيته فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها لا تزر وازرة وزر أخرى وهو كقوله وإن تدع مثقلة ذنوبا إلى حملها لا يحمل منه شيء وما يرخص من البكاء في غير نوح وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها وذلك لأنه أول من سن القتل

                                                                                                                                                                                                        1224 حدثنا عبدان ومحمد قالا أخبرنا عبد الله أخبرنا عاصم بن سليمان عن أبي عثمان قال حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه إن ابنا لي قبض فأتنا فأرسل يقرئ السلام ويقول إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع قال حسبته أنه قال كأنها شن ففاضت عيناه فقال سعد يا رسول الله ما هذا فقال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء [ ص: 180 ] [ ص: 181 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 180 ] [ ص: 181 ] قوله : ( باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته ) هذا تقييد من المصنف لمطلق الحديث ، وحمل منه لرواية ابن عباس المقيدة بالبعضية على رواية [ ص: 182 ] ابن عمر المطلقة كما ساقه في الباب عنهما ، وتفسير منه للبعض المبهم في رواية ابن عباس بأنه النوح ، ويؤيده أن المحذور بعض البكاء لا جميعه ، كما سيأتي بيانه .

                                                                                                                                                                                                        وقوله : ( إذا كان النوح من سنته ) يوهم أنه بقية الحديث المرفوع ، وليس كذلك ، بل المصنف قاله تفقها ، وبقية السياق يرشد إلى ذلك ، وهذا الذي جزم به هو أحد الأقوال في تأويل الحديث المذكور كما سيأتي بيانه . واختلف في ضبط قوله : " من سنته " ، فللأكثر في الموضعين بضم المهملة وتشديد النون ؛ أي طريقته وعادته ، وضبطه بعضهم بفتح المهملة بعدها موحدتان : الأولى مفتوحة ، أي من أجله ، قال صاحب المطالع : حكي عن أبي الفضل بن ناصر أنه رجح هذا ، وأنكر الأول ، فقال : وأي سنة للميت ؟ انتهى . وقال الزين بن المنير : بل الأول أولى لإشعاره بالعناية بذلك ، إذ لا يقال : من سنته إلا عند غلبة ذلك عليه ، واشتهاره به . قلت : وكأن البخاري ألهم هذا الخلاف ، فأشار إلى ترجيح الأول حيث استشهد بالحديث الذي فيه : لأنه أول من سن القتل ، فإنه يثبت ما استبعده ابن ناصر بقوله : وأي سنة للميت ؟ وأما تعبير المصنف بالنوح ، فمراده ما كان من البكاء بصياح وعويل ، وما يلتحق بذلك من لطم خد وشق جيب ، وغير ذلك من المنهيات .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لقول الله تعالى : قوا أنفسكم وأهليكم نارا ) وجه الاستدلال لما ذهب إليه من هذه الآية أن هذا الأمر عام في جهات الوقاية ، ومن جملتها أن لا يكون الأصل مولعا بأمر منكر ، لئلا يجري أهله عليه بعده ، أو يكون قد عرف أن لأهله عادة بفعل أمر منكر ، وأهمل نهيهم عنه ، فيكون لم يق نفسه ولا أهله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال النبي صلى الله عليه وسلم : كلكم راع . . . الحديث ) هو طرف من حديث لابن عمر تقدم موصولا في الجمعة ، ووجه الاستدلال منه ما تقدم ، لأن من جملة رعايته لهم أن يكون الشر من طريقته ، فيجري أهله عليه ، أو يراهم يفعلون الشر فلا ينهاهم عنه ، فيسأل عن ذلك ويؤاخذ به . وقد تعقب استدلال البخاري بهذه الآية والحديث على ما ذهب إليه من حمل حديث الباب عليه ، لأن الحديث ناطق بأن الميت يعذب ببكاء أهله ، والآية والحديث يقتضيان أنه يعذب بسنته ، فلم يتحد الموردان ، والجواب أنه لا مانع في سلوك طريق الجمع من تخصيص بعض العمومات ، وتقييد بعض المطلقات ، فالحديث وإن كان دالا على تعذيب كل ميت بكل بكاء ، لكن دلت أدلة أخرى على تخصيص ذلك ببعض البكاء ، كما سيأتي توجيهه وتقييد ذلك بمن كانت تلك سنته أو أهمل النهي عن ذلك ، فالمعنى على هذا أن الذي يعذب ببعض بكاء أهله من كان راضيا بذلك بأن تكون تلك طريقته إلخ ، ولذلك قال المصنف : ( فإذا لم يكن من سنته ) ؛ أي كمن كان لا شعور عنده بأنهم يفعلون شيئا من ذلك ، أو أدى ما عليه بأن نهاهم ، فهذا لا مؤاخذة عليه بفعل غيره ، ومن ثم قال ابن المبارك : إذا كان ينهاهم في حياته ففعلوا شيئا من ذلك بعد وفاته لم يكن عليه شيء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فهو كما قالت عائشة ) أي كما استدلت عائشة بقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى ؛ أي ولا تحمل حاملة ذنبا ذنب أخرى عنها ، وهذا حمل منه لإنكار عائشة على أنها أنكرت عموم التعذيب لكل ميت بكي عليه . وأما قوله : " وهو كقوله : وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء " فوقع في رواية أبي ذر وحده " . وإن تدع مثقلة ذنوبا إلى حملها " وليست ذنوبا في التلاوة ، وإنما هو في تفسير مجاهد ، فنقله المصنف عنه ، وموقع التشبيه في قوله أن الجملة الأولى دلت على أن النفس المذنبة لا يؤاخذ غيرها بذنبها ، [ ص: 183 ] فكذلك الثانية دلت على أن النفس المذنبة لا يحمل عنها غيرها شيئا من ذنوبها ، ولو طلبت ذلك ودعت إليه ، ومحل ذلك كله إنما هو في حق من لم يكن له في شيء من ذلك تسبب ، وإلا فهو يشاركه كما في قوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ، وقوله صلى الله عليه وسلم : فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وما يرخص من البكاء في غير نوح ) هذا معطوف على أول الترجمة ، وكأنه أشار بذلك إلى حديث عامر بن سعد ، عن أبي مسعود الأنصاري ، وقرظة بن كعب ، قالا : رخص لنا في البكاء عند المصيبة في غير نوح . أخرجه ابن أبي شيبة ، والطبراني ، وصححه الحاكم ، لكن ليس إسناده على شرط البخاري ، فاكتفى بالإشارة إليه ، واستغنى عنه بأحاديث الباب الدالة على مقتضاه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تقتل نفس ظلما . . . الحديث ) هو طرف من حديث لابن مسعود وصله المصنف في الديات وغيرها ، ووجه الاستدلال به أن القاتل المذكور يشارك من صنع صنيعه لكونه فتح له الباب ونهج له الطريق ، فكذلك من كانت طريقته النوح على الميت يكون قد نهج لأهله تلك الطريقة ، فيؤاخذ على فعله الأول . وحاصل ما بحثه المصنف في هذه الترجمة أن الشخص لا يعذب بفعل غيره إلا إذا كان له فيه تسبب ، فمن أثبت تعذيب شخص بفعل غيره فمراده هذا ، ومن نفاه فمراده ما إذا لم يكن له فيه تسبب أصلا ، والله أعلم . وقد اعترض بعضهم على استدلال البخاري بهذا الحديث لأن ظاهره أن الوزر يختص بالبادئ دون من أتى بعده ، فعلى هذا يختص التعذيب بأول من سن النوح على الموتى . والجواب أنه ليس في الحديث ما ينفي الإثم عن غير البادئ فيستدل على ذلك بدليل آخر ، وإنما أراد المصنف بهذا الحديث الرد على من يقول : إن الإنسان لا يعذب إلا بذنب باشره بقوله أو فعله ، فأراد أن يبين أنه قد يعذب بفعل غيره إذا كان له فيه تسبب . وقد اختلف العلماء في مسألة تعذيب الميت بالبكاء عليه فمنهم من حمله على ظاهره وهو بين من قصة عمر مع صهيب كما سيأتي في ثالث أحاديث هذا الباب ، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى أن المؤاخذة تقع على الميت إذا كان قادرا على النهي ولم يقع منه ، فلذلك بادر إلى نهي صهيب ، وكذلك نهي حفصة كما رواه مسلم من طريق نافع ، عن ابن عمر عنه ، وممن أخذ بظاهره أيضا عبد الله بن عمر فروى عبد الرزاق من طريقه أنه شهد جنازة رافع بن خديج ، فقال لأهله : إن رافعا شيخ كبير لا طاقة له بالعذاب ، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه . ويقابل قول هؤلاء قول من رد هذا الحديث وعارضه بقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى ممن روي عنه الإنكار مطلقا أبو هريرة ، كما رواه أبو يعلى من طريق بكر بن عبد الله المزني قال : قال أبو هريرة " والله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد فعمدت امرأته سفها وجهلا فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة " . وإلى هذا جنح جماعة من الشافعية ، منهم أبو حامد وغيره ، ومنهم من أول قوله : " ببكاء أهله عليه " ، على أن الباء للحال ، أي أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه ، وذلك أن شدة بكائهم غالبا إنما تقع عند دفنه ، وفي تلك الحالة يسأل ويبتدأ به عذاب القبر ، فكأن معنى الحديث أن الميت يعذب حالة بكاء أهله عليه ، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سببا لتعذيبه ، حكاه الخطابي ، ولا يخفى ما فيه من التكلف . ولعل قائله إنما أخذه من قول عائشة : " إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه ، وإن أهله ليبكون عليه الآن . أخرجه مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها ، وعلى هذا يكون خاصا ببعض الموتى . [ ص: 184 ] ومنهم من أوله على أن الراوي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه ، وأن اللام في الميت لمعهود معين كما جزم به القاضي أبو بكر الباقلاني وغيره ، وحجتهم ما سيأتي في رواية عمرة عن عائشة في رابع أحاديث الباب ، وقد رواه مسلم من الوجه الذي أخرجه منه البخاري ، وزاد في أوله : ذكر لعائشة أن ابن عمر يقول : إن الميت ليعذب ببكاء الحي . فقالت عائشة : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، أما إنه لم يكذب ، ولكنه نسي أو أخطأ ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية . . . فذكرت الحديث . ومنهم من أوله على أن ذلك مختص بالكافر ، وأن المؤمن لا يعذب بذنب غيره أصلا ، وهو بين من رواية ابن عباس ، عن عائشة ، وهو ثالث أحاديث الباب . وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة ، وفيه إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر ، بل بما استشعرته من معارضة القرآن . قال الداودي : رواية ابن عباس ، عن عائشة أثبتت ما نفته عمرة وعروة عنها ، إلا أنها خصته بالكافر ، لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذابا ببكاء أهله ، فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره ، أو يعذب ابتداء ؟ وقال القرطبي : إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضا ، ولم يسمع بعضا بعيد ، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح . وقد جمع كثير من أهل العلم بين حديثي عمر وعائشة بضروب من الجمع : أولها طريقة البخاري كما تقدم توجيهها . ثانيها وهو أخص من الذي قبله : ما إذا أوصى أهله بذلك . وبه قال المزني ، وإبراهيم الحربي وآخرون من الشافعية وغيرهم ، حتى قال أبو الليث السمرقندي : إنه قول عامة أهل العلم ، وكذا نقله النووي عن الجمهور ، قالوا : وكان معروفا للقدماء حتى قال طرفة بن العبد :

                                                                                                                                                                                                        إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد

                                                                                                                                                                                                        واعترض بأن التعذيب بسبب الوصية يستحق بمجرد صدور الوصية ، والحديث دال على أنه إنما يقع عند وقوع الامتثال . والجواب أنه ليس في السياق حصر ، فلا يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم يمتثلوا مثلا . ثالثها يقع ذلك أيضا لمن أهمل نهي أهله عن ذلك ، وهو قول داود وطائفة . ولا يخفى أن محله ما إذا لم يتحقق أنه ليست لهم بذلك عادة ، ولا ظن أنهم يفعلون ذلك ، قال ابن المرابط : إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النوح ، وعرف أن أهله من شأنهم يفعلون ذلك ، ولم يعلمهم بتحريمه ، ولا زجرهم عن تعاطيه ، فإذا عذب على ذلك بفعل نفسه لا بفعل غيره بمجرده . رابعها معنى قوله : " يعذب ببكاء أهله " ؛ أي بنظير ما يبكيه أهله به ، وذلك أن الأفعال التي يعددون بها عليه غالبا تكون من الأمور المنهية ، فهم يمدحونه بها ، وهو يعذب بصنيعه ذلك ، وهو عين ما يمدحونه به ، وهذا اختيار ابن حزم وطائفة ، واستدل له بحديث ابن عمر الآتي بعد عشرة أبواب في قصة موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه : ولكن يعذب بهذا ، وأشار إلى لسانه . . قال ابن حزم : فصح أن البكاء الذي يعذب به الإنسان ما كان منه باللسان ، إذ يندبونه برياسته التي جار فيها ، وشجاعته التي صرفها في غير طاعة الله ، وجوده الذي لم يضعه في الحق ، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخر ، وهو يعذب بذلك . وقال الإسماعيلي كثر كلام العلماء في هذه المسألة ، وقال : كل مجتهد على حسب ما قدر له ، ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه ، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغيرون ويسبون ويقتلون ، وكان أحدهم إذا مات بكته باكيته بتلك الأفعال المحرمة ، فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله به ، لأن الميت يندب بأحسن أفعاله ، وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر ، وهي زيادة ذنب [ ص: 185 ] من ذنوبه يستحق العذاب عليها . خامسها معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به ، كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعا : الميت يعذب ببكاء الحي ، إذا قالت النائحة : واعضداه واناصراه واكاسياه ، جبذ الميت ، وقيل له : أنت عضدها ، أنت ناصرها ، أنت كاسيها ؟ ورواه ابن ماجه بلفظ : يتعتع به ، ويقال : أنت كذلك . ؟ ورواه الترمذي بلفظ : ما من ميت يموت فتقوم نادبته فتقول : واجبلاه واسنداه ، أو شبه ذلك من القول ، إلا وكل به ملكان يلهزانه ، أهكذا كنت ؟ وشاهده ما روى المصنف في المغازي من حديث النعمان بن بشير قال : أغمي على عبد الله بن رواحة ، فجعلت أخته تبكي وتقول : واجبلاه واكذا واكذا ، فقال حين أفاق : ما قلت شيئا إلا قيل لي : أنت كذلك ؟ سادسها معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها ، وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين ، ورجحه ابن المرابط ، وعياض ، ومن تبعه ، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين ، واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة ، وهي بفتح القاف وسكون التحتانية ، وأبوها بفتح الميم وسكون المعجمة ، ثقفية : " قلت : يا رسول الله ، قد ولدته فقاتل معك يوم الربذة ، ثم أصابته الحمى فمات ، ونزل علي البكاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفا ، وإذا مات استرجع ، فوالذي نفس محمد بيده ، إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه ، فيا عباد الله ، لا تعذبوا موتاكم . وهذا طرف من حديث طويل حسن الإسناد ، أخرجه ابن أبي خيثمة ، وابن أبي شيبة ، والطبراني وغيرهم ، وأخرج أبو داود ، والترمذي أطرافا منه . قال الطبري : ويؤيد ما قاله أبو هريرة أن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم ، ثم ساقه بإسناد صحيح إليه ، وشاهده حديث النعمان بن بشير مرفوعا ، أخرجه البخاري في تاريخه ، وصححه الحاكم ، قال ابن المرابط : حديث قيلة نص في المسألة ، فلا يعدل عنه . واعترضه ابن رشيد بأنه ليس نصا ، وإنما هو محتمل ، فإن قوله : " فيستعبر إليه صويحبه " ليس نصا في أن المراد به الميت ، بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي ، وأن الميت يعذب حينئذ ببكاء الجماعة عليه ، ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلا : من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته ، أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه ، ومن كان ظالما فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به ، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها ، فإن كان راضيا بذلك التحق بالأول وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ : كيف أهمل النهي . ومن سلم من ذلك كله واحتاط ، فنهى أهله عن المعصية ، ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره ، وإقدامهم على معصية ربهم . والله تعالى أعلم بالصواب . وحكى الكرماني تفصيلا آخر وحسنه ، وهو التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة ، فيحمل قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى على يوم القيامة ، وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ . ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع في الدنيا ، والإشارة إليه بقوله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب ، فكذلك يمكن أن يكون الحال في البرزخ بخلاف يوم القيامة ، والله أعلم . ثم أورد المصنف في الباب خمسة أحاديث : الأول حديث أسامة .

                                                                                                                                                                                                        : قوله : ( حدثنا عبدان ، ومحمد ) هو ابن مقاتل ، وعبد الله هو ابن المبارك .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 186 ] قوله : ( عن أبي عثمان ) هو النهدي كما صرح به في التوحيد من طريق حماد ، عن عاصم ، وفي رواية شعبة في أواخر الطب ، عن عاصم : سمعت أبا عثمان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم ) هي زينب كما وقع في رواية أبي معاوية ، عن عاصم المذكور في مصنف ابن أبي شيبة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إن ابنا لي ) قيل : هو علي بن أبي العاص بن الربيع ، وهو من زينب ، كذا كتب الدمياطي بخطه في الحاشية ، وفيه نظر ، لأنه لم يقع مسمى في شيء من طرق هذا الحديث . وأيضا فقد ذكر الزبير بن بكار وغيره من أهل العلم بالأخبار أن عليا المذكور عاش حتى ناهز الحلم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه على راحلته يوم فتح مكة ، ومثل هذا لا يقال في حقه صبي عرفا ، وإن جاز من حيث اللغة . ووجدت في الأنساب للبلاذري أن عبد الله بن عثمان بن عفان من رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم لما مات وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره ، وقال : إنما يرحم الله من عباده الرحماء . وفي مسند البزار من حديث أبي هريرة قال : ثقل ابن لفاطمة ، فبعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم . . . فذكر نحو حديث الباب ، وفيه مراجعة سعد بن عبادة في البكاء ، فعلى هذا فالابن المذكور محسن بن علي بن أبي طالب ، وقد اتفق أهل العلم بالأخبار ، أنه مات صغيرا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا أولى أن يفسر به الابن إن ثبت أن القصة كانت لصبي ، ولم يثبت أن المرسلة زينب ، لكن الصواب في حديث الباب أن المرسلة زينب ، وأن الولد صبية كما ثبت في مسند أحمد ، عن أبي معاوية بالسند المذكور ، ولفظه : أتي النبي صلى الله عليه وسلم بأمامة بنت زينب . زاد سعدان بن نصر في الثاني من حديثه عن أبي معاوية بهذا الإسناد ، وهي لأبي العاص بن الربيع : ونفسها تقعقع ، كأنها في شن . فذكر حديث الباب ، وفيه مراجعة سعد بن عبادة . وهكذا أخرجه أبو سعيد بن الأعرابي في معجمه عن سعدان ، ووقع في رواية بعضهم أميمة بالتصغير ، وهي أمامة المذكورة ، فقد اتفق أهل العلم بالنسب أن زينب لم تلد لأبي العاص إلا عليا وأمامة فقط ، وقد استشكل ذلك من حيث إن أهل العلم - بالأخبار - اتفقوا على أن أمامة بنت أبي العاص من زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة ، ثم عاشت عند علي حتى قتل عنها . ويجاب بأن المراد بقوله في حديث الباب : " إن ابنا لي قبض " ؛ أي قارب أن يقبض ، ويدل على ذلك أن في رواية حماد : " أرسلت تدعوه إلى ابنها في الموت " . وفي رواية شعبة : " إن ابنتي قد حضرت " ، وهو عند أبي داود من طريقه أن ابني أو ابنتي ، وقد قدمنا أن الصواب قول من قال : ابنتي ، لا ابني ، ومؤيده ما رواه الطبراني في ترجمة عبد الرحمن بن عوف في المعجم الكبير من طريق الوليد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن جده قال : استعز بأمامة بنت أبي العاص ، فبعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه تقول له . . . فذكر نحو حديث أسامة وفيه مراجعة سعد في البكاء وغير ذلك ، وقوله في هذه الرواية : " استعز " بضم المثناة وكسر المهملة وتشديد الزاي ؛ أي اشتد بها المرض ، وأشرفت على الموت ، والذي يظهر أن الله تعالى أكرم نبيه صلى الله عليه وسلم لما سلم لأمر ربه ، وصبر ابنته ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة والشفقة بأن عافى الله ابنة ابنته في ذلك الوقت فخلصت من تلك الشدة ، وعاشت تلك المدة ، وهذا ينبغي أن يذكر في دلائل النبوة ، والله المستعان .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 187 ] قوله : ( يقرئ السلام ) بضم أوله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إن لله ما أخذ وله ما أعطى ) قدم ذكر الأخذ على الإعطاء - وإن كان متأخرا في الواقع - لما يقتضيه المقام ، والمعنى أن الذي أراد الله أن يأخذه هو الذي كان أعطاه ، فإن أخذه أخذ ما هو له ، فلا ينبغي الجزع ، لأن مستودع الأمانة لا ينبغي له أن يجزع إذا استعيدت منه ، ويحتمل أن يكون المراد بالإعطاء إعطاء الحياة لمن بقي بعد الميت ، أو ثوابهم على المصيبة ، أو ما هو أعم من ذلك . و " ما " في الموضعين مصدرية ، ويحتمل أن تكون موصولة ، والعائد محذوف ، فعل الأول التقدير : لله الأخذ والإعطاء . وعلى الثاني : لله الذي أخذه من الأولاد ، وله ما أعطى منهم ، أو ما هو أعم من ذلك كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وكل ) ؛ أي من الأخذ والإعطاء - أو من الأنفس - أو ما هو أعم من ذلك ، وهي جملة ابتدائية معطوفة على الجملة المؤكدة ، ويجوز في " كل " النصب عطفا على اسم إن ، فينسحب التأكيد أيضا عليه ، ومعنى العندية العلم فهو من مجاز الملازمة ، والأجل يطلق على الحد الأخير ، وعلى مجموع العمر ، وقوله : ( مسمى ) ؛ أي معلوم مقدر ، أو نحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولتحتسب ) أي تنوي بصبرها طلب الثواب من ربها ، ليحسب لها ذلك من عملها الصالح

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فأرسلت إليه تقسم ) وقع في حديث عبد الرحمن بن عوف أنها راجعته مرتين ، وأنه إنما قام في ثالث مرة ، وكأنها ألحت عليه في ذلك دفعا لما يظنه بعض أهل الجهل أنها ناقصة المكانة عنده ، أو ألهمها الله تعالى أن حضور نبيه عندها يدفع عنها ما هي فيه من الألم ببركة دعائه وحضوره ، فحقق الله ظنها . والظاهر أنه امتنع أولا مبالغة في إظهار التسليم لربه ، أو ليبين الجواز في أن من دعي لمثل ذلك لم تجب عليه الإجابة بخلاف الوليمة مثلا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقام ومعه ) في رواية حماد : " فقام وقام معه رجال " . وقد سمي منهم - غير من ذكر في هذه الرواية - عبادة بن الصامت ، وهو في رواية عبد الواحد في أوائل التوحيد ، وفي رواية شعبة أن أسامة راوي الحديث كان معهم ، وفي رواية عبد الرحمن بن عوف أنه كان معهم ، ووقع في رواية شعبة في الأيمان والنذور : وأبي ، أو أبي ، كذا فيه بالشك : هل قالها بفتح الهمزة وكسر الموحدة ، وتخفيف الياء أو بضم الهمزة وفتح الموحدة والتشديد ، فعلى الأول يكون معهم زيد بن حارثة أيضا لكن الثاني أرجح ، لأنه ثبت في رواية هذا الباب بلفظ : " وأبي بن كعب ، " والظاهر أن الشك فيه من شعبة ، لأن ذلك لم يقع في رواية غيره ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فرفع ) كذا هنا بالراء ، وفي رواية حماد : " فدفع " بالدال ، وبين في رواية شعبة أنه وضع في حجره صلى الله عليه وسلم . وفي هذا السياق حذف ، والتقدير : فمشوا إلى أن وصلوا إلى بيتها فاستأذنوا ، فأذن لهم ، فدخلوا فرفع ، ووقع بعض هذا المحذوف في رواية عبد الواحد ، ولفظه : فلما دخلنا ناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ونفسه تقعقع ، قال : حسبت أنه قال : كأنها شن ) كذا في هذه الرواية ، وجزم بذلك في رواية حماد ولفظه : ونفسه تقعقع كأنها في شن . والقعقعة حكاية صوت الشيء اليابس إذا حرك ، والشن بفتح المعجمة وتشديد النون القربة الخلقة اليابسة ، وعلى الرواية الثانية شبه البدن بالجلد اليابس الخلق ، وحركة [ ص: 188 ] الروح فيه بما يطرح في الجلد من حصاة ونحوها . وأما الرواية الأولى فكأنه شبه النفس بنفس الجلد ، وهو أبلغ في الإشارة إلى شدة الضعف ، وذلك أظهر في التشبيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ففاضت عيناه ) أي النبي صلى الله عليه وسلم وصرح به في رواية شعبة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال سعد ) ؛ أي ابن عبادة المذكور ، وصرح به في رواية عبد الواحد ، ووقع في رواية ابن ماجه من طريق عبد الواحد : " فقال عبادة بن الصامت " ، والصواب ما في الصحيح .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ما هذا ) في رواية عبد الواحد : فقال سعد بن عبادة : أتبكي . زاد أبو نعيم في المستخرج : وتنهى عن البكاء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال هذه ) أي الدمعة أثر رحمة ، أي أن الذي يفيض من الدمع من حزن القلب بغير تعمد من صاحبه ، ولا استدعاء لا مؤاخذة عليه ، وإنما المنهي عنه الجزع ، وعدم الصبر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ) في رواية شعبة في أواخر الطب : ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء . ومن في قوله : " من عباده " بيانية ، وهي حال من المفعول قدمه ، فيكون أوقع ، و " الرحماء " جمع رحيم ، وهو من صيغ المبالغة ، ومقتضاه أن رحمة الله تختص بمن اتصف بالرحمة ، وتحقق بها بخلاف من فيه أدنى رحمة ، لكن ثبت في حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود وغيره : الراحمون يرحمهم الرحمن . والراحمون جمع راحم ، فيدخل كل من فيه أدنى رحمة ، وقد ذكر الحربي مناسبة الإتيان بلفظ الرحماء في حديث الباب بما حاصله أن لفظ الجلالة دال على العظمة ، وقد عرف بالاستقراء أنه حيث ورد يكون الكلام مسوقا للتعظيم ، فلما ذكر هنا ناسب ذكر من كثرت رحمته وعظمته ليكون الكلام جاريا على نسق التعظيم ، بخلاف الحديث الآخر فإن لفظ الرحمن دال على العفو ، فناسب أن يذكر معه كل ذي رحمة ، وإن قلت ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم : جواز استحضار ذوي الفضل للمحتضر لرجاء بركتهم ودعائهم ، وجواز القسم عليهم لذلك ، وجواز المشي إلى التعزية والعيادة بغير إذن بخلاف الوليمة ، وجواز إطلاق اللفظ الموهم لما لم يقع بأنه يقع مبالغة في ذلك ، لينبعث خاطر المسئول في المجيء للإجابة إلى ذلك ، وفيه استحباب إبرار القسم وأمر صاحب المصيبة بالصبر قبل وقوع الموت ليقع وهو مستشعر بالرضا مقاوما للحزن بالصبر ، وإخبار من يستدعي بالأمر الذي يستدعى من أجله ، وتقديم السلام على الكلام ، وعيادة المريض ولو كان مفضولا أو صبيا صغيرا . وفيه أن أهل الفضل لا ينبغي أن يقطعوا الناس عن فضلهم ولو ردوا أول مرة ، واستفهام التابع من إمامه عما يشكل عليه مما يتعارض ظاهره ، وحسن الأدب في السؤال لتقديمه قوله : " يا رسول الله ، " على الاستفهام . وفيه الترغيب في الشفقة على خلق الله والرحمة لهم ، والترهيب من قساوة القلب وجمود العين ، وجواز البكاء من غير نوح ونحوه .

                                                                                                                                                                                                        الحديث الثاني حديث أنس :



                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية