الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبالجملة : رأس الطاعات التوحيد ، ورأس الخطايا الشرك ، ولا نعمة خير من التوحيد ، ولا نقمة أشد من الشرك .

فعليك أن تعلم جميع أنواع الإشراك بالله تعالى ، وتجتنب منه ما استطعت . [ ص: 402 ]

فإنك تفوز غدا -إن شاء الله تعالى - بالدرجات العلا ، في أعلى الفردوس ، وتنجو من دركات النار ، التي لا عذاب فوقها .

اللهم ثبت قلوبنا على دينك ، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا .

قال في «فتح المجيد » : وفي هذا الحديث : كثرة ثواب التوحيد ، وسعة كرم الله وجوده ، ورحمته ، والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب ، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين ، وهو الفاسق ، يقولون: ليس بمؤمن ولا كافر ، ويخلد في النار .

والصواب : قول أهل السنة : إنه لا يسلب عنه اسم الإيمان ، ولا يعطاه على الإطلاق ، بل يقال : هو مؤمن عاص ، أو مؤمن بإيمانه ، فاسق بكبيرته . وعلى هذا يدل الكتاب والسنة ، وإجماع سلف الأمة وأئمتها .

وفي حديث الإسراء عن ابن مسعود يرفعه : «وغفر لمن يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات » رواه مسلم .

وفي حديث أنس عند أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، والنسائي ، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : هو أهل التقوى وأهل المغفرة [المدثر : 56] ؛ فقال : «قال ربكم : أنا أهل أن أتقى ، فلا يجعل معي إلها . فمن اتقى أن يجعل معي إلها ، كان أهلا أن أغفر له » .

ولمسلم عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لقي الله لا يشرك به شيئا ، دخل الجنة ، ومن لقيه يشرك به شيئا ، دخل النار » .

قال القرطبي : أي : من لم يتخذ معه شريكا في الإلهية ، ولا في الخلق ، ولا في العبادة . ومن المعلوم من الشرع بالضرورة - وهو المجمع عليه عند أهل السنة - أن مات على ذلك، فلا بد له من دخول الجنة ، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة ، وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنة ، ولا يناله من الله رحمة ، ويخلد في النار أبد الآباد من غير انقطاع العذاب ، وتصرم الآماد . [ ص: 403 ]

قال النووي : أما دخول المشرك النار ، فهو على عمومه ، فيدخلها ويخلد فيها .

ولا فرق بين الكتابي اليهودي ، والنصراني ، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة .

ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا ، أو غيره ، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ، ثم حكم بكفره وبجحده ، وغير ذلك.

وأما دخول من مات غير مشرك الجنة ، فهو مقطوع له به ، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا ، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها ، فهو تحت المشيئة ، فإن عفا عنه ، دخل الجنة أولا ، وإلا عذب في النار ، ثم أخرج إلى الجنة .

وقال غيره : اقتصر على نفي الشرك ؛ لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء ، واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم ؛ إذ من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كذب الله ، ومن كذب الله ، فهو مشرك . وهذا كقولك : من توضأ ، صحت صلاته ؛ أي : مع سائر الشروط .

فالمراد : من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الإيمان به ، إجمالا في الإجمال ، وتفصيلا في التفصيل . انتهى .

وعن محمود بن لبيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » ، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال: «الرياء ، يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذي كنتم تراؤون في الدنيا ، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟ » .

رواه أحمد ، والطبراني ، والبيهقي . وهذا لفظ أحمد .

قال المنذري : محمود بن لبيد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح له منه سماع فيما رأى . [ ص: 404 ]

وذكر ابن أبي حاتم : أن البخاري قال: له صحبة ، رجحه ابن عبد البر ، والحافظ .

وقد رواه الطبراني بأسانيد جيدة عنه ، عن رافع بن خديج : مات محمود سنة 96 ، وقيل : سنة 97 ، وله سنة 99 .

وهذا الحديث من وادي شفقته بأمته ، ورحمته ، ورأفته بهم ، فلا خير إلا دلهم عليه وأمرهم به ، ولا شر إلا بينه لهم ، وأخبرهم به ، ونهاهم عنه .

كما قال صلى الله عليه وسلم، فيما صح : «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم » .

فإذا كان الشرك متخوفا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع كمال علمهم ، وقوة إيمانهم ، وغاية عملهم ، وصحة نيتهم ؛ فكيف لا يخافه من دونهم في العلم والإيمان ، والعمل ، والنية بمراتب ؟ خصوصا إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار ، وفضلاء الأقطار من العرب والعجم ، والأحمر والأسود ، والأبيض لا يعرفون من التوحيد إلا ما يقر به المشركون ، وما عرفوا الإله الذي نفته كلمة الإخلاص عما سوى الله ؟

وأخرج أبو يعلى ، وابن المنذر ، عن حذيفة بن اليمان ، عن أبي بكر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل » . قال أبو بكر : يا رسول الله ! وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله ، أو ما دعي مع الله ؟ . قال «ثكلتك أمك » ، الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل » الحديث .

ومنه : أن تقول : أعطاني الله وفلان .

والند أن يقول الإنسان : لولا فلان ، قتلني فلان . انتهى من «الدر المنثور » .

قال الشوكاني في «الدر النضيد » : اعلم أن الله تعالى لم يبعث رسله ، ولم ينزل كتبه ، لتعريف خلقه بأنه الخالق لهم ، والرازق لهم ، ونحو ذلك ؛ فإن هذا يقر به كل مشرك قبل بعثة الرسل . [ ص: 405 ]

ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [الزخرف : 87] ، إلى غير ذلك من الآيات التي ساقها .

ثم قال: ولهذا تجد كل ما ورد في الكتاب العزيز في شأن خالق الخلق ونحوه في مخاطبة الكفار ، ورد معنونا باستفهام التقرير هل من خالق غير الله [فاطر : 3] ، أفي الله شك [إبراهيم : 10] ، أغير الله أتخذ وليا [الأنعام : 14] .

بل بعث الله رسله ، وأنزل كتبه لإخلاص توحيده ، وإفراده بالعبادة .

يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [هود : 50] ، ونحو هذا من الآيات .

وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله ، والنداء والاستغاثة والرجاء ، واستجلاب الخير ، واستدفاع الشر له ، ومنه ، لا لغيره ، ولا من غيره فلا تدعوا مع الله أحدا [الجن : 18] ، له دعوة الحق [الرعد : 14] ، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين [المائدة : 23] ، ونحوها من الآيات .

قال : وقد تقرر أن شرك المشركين الذين بعث الله إليهم خاتم رسله صلى الله عليه وسلم، لم يكن إلا باعتقادهم أن الأنداد التي اتخذوها ، تنفعهم ، وتضرهم ، وتقربهم إلى الله ، وتشفع لهم عنده ، مع اعترافهم بأن الله هو خالقها وخالقهم ، ورازقها ورازقهم ، ومحييها ومحييهم ، ومميتها ومميتهم .

ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر : 3] ، فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ، تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [الشعراء : 97-98] ، وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ، هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس : 18] .

وكانوا يقولون في تلبيتهم : لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك .

وإذا تقرر هذا ، فلا شك من اعتقد في ميت من الأموات ، أو حي من الأحياء : أنه يضره ، أو ينفعه استقلالا ، أو مع الله ، وناداه ، أو توجه إليه ، أو [ ص: 406 ] استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق ، فلم يخلص التوحيد لله ، ولا أفرده العبادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية