الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهي سنة مؤكدة .

التالي السابق


( وهي سنة مؤكدة) أما سنيتها فلأنها ثبتت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم إياها كما سيأتي في حديث عائشة، وأما تأكدها فهو الذي تضافرت عليه الأدلة، وصرح به علماء الأمة، ولم يرد خلافه في حديث صحيح ولا ضعيف، وقد ألف قاضي القضاة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى فيما يتعلق بتأكد سنية صلاة التراويح ثلاث رسائل أولها ضوء المصابيح في صلاة التراويح، وهي في ثمان كراريس، والثانية تقييد التراجيح في تأكيد التراويح كراسة واحدة، والثالثة إشراق المصابيح في صلاة التراويح كراسة واحدة، وقد اطلعت على الأخيرتين بخطه، وذكر في أول الثانية ما نصه سألني بعض الأمراء عن صلاة التراويح هل هي سنة مؤكدة أو غير مؤكدة؟ فأجبته أنها سنة مؤكدة فنازع في ذلك، وانتصر له بعض الفقهاء الشافعية في أنها سنة غير مؤكدة، وبعض الفضلاء المالكية في أنها ليست بسنة على اصطلاح المالكية في الفرق بين السنة والفضيلة والنافلة، وتمسك الشافعي المذكور أيضا باصطلاح لبعض أصحابنا أن السنة ما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وحاول بذلك نفي اسم السنة لينتفي التأكيد ظنا منه أن ما ليس بسنة ليس بمؤكد، فرددنا عليهم في عدة مختصرات، وأظهرنا النقل منصوصا للشافعي وأصحابه، وأبي حنيفة وأصحابه، والحنابلة، وغيرهم، ومقتضى كلام المالكية، وإن كان للمتأخرين منهم اصطلاح خاص خرجوا على مقتضاه بأن التراويح فضيلة، ولكن مع ذلك لم يصرحوا بنفي التأكيد، ولا دل كلامهم عليه، ومن المعلوم أن كلا من الفضائل والنوافل على اصطلاحهم درجات بعضها آكد من بعض، وكان الأمير الذي أشرنا إليه مصرحا بالسنية، وإنما ينازع في التأكيد، ومن انتدب للكلام من الفقهاء منتصرا له فأحببت أن أصنف هذا المختصر. اقتصر فيه على إثبات التأكيد من غير تعرض للفظ السنة إلى [ ص: 416 ] آخر ما قال، وذكر فيها أن معنى التأكيد أنها مطلوبة بخصوصها طلبا قويا بحيث لا يكون فوقها إلا الواجب، بل التأكيد مراتب بعضها آكد من بعض .

ثم قال: وقد اشتمل هذا الحد على أربعة قيود أحدها قولنا مطلوبة، وبه خرج المباح، فلا يقال لشيء منه: إنه مؤكد. الثاني: قولنا بخصوصها، وبه خرج النفل المطلق، فإن الإكثار من الصلاة في أي وقت كان من غير أوقات الكراهة قربة وطاعة ومطلوب، فمن أتى بركعتين من ذلك مثلا فهي مطلوبة بعمومها لكونها فردا من الصلاة التي هي خير موضوع، وجنسها مطلوب، وليست مطلوبة بخصوصها؛ لأن الفرض أنها مما لم يرد في عينها عن الشارع شيء، الثالث قولنا طلبا قويا، وبه تخرج الركعتان الزائدتان قبل الظهر، والأربع قبل العصر؛ لأن الأصح أنها غير مؤكدة، وإن كانت مندوبة، ولا شك أنها لها خصوصية زائدة على النفل المطلق؛ إذ ورد فيها بخصوصها أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، ولكن لعدم المداومة عليها أو عدم ثبوت المداومة لم تلحق بالركعتين الأوليين قبل الظهر، واحتمل أن تكون فعلت على وجه التنفل، وإن كان هذا الاحتمال مرجوحا بالنسبة إلى ما دل الفعل عليه من الطلب الخاص؛ فلذلك قلنا: إنها غير مؤكدة، وهي مطلوبة بخصوصها فهي مرتبة بين النفل والمطلق، وبين المؤكدة. الرابع: دون طلب الواجب قيد لابد منه ليخرج الواجب، فإنه مطلوب بخصوصه طلبا قويا، ودخل في الحد كل ما دل الدليل على طلبه بخصوصه طلبا قويا دون الإيجاب سواء كان الدليل قولا أم فعلا، وسواء كان القول طلبا صريحا أم غيره مما يدل على الطلب، فيدخل في ذلك الوتر، وركعتا الفجر، والعيد، والكسوف، والاستسقاء، وبعض السنن التابعة للفرائض، والتراويح، والضحى، والتهجد .

ثم قال: فإذا أردنا أن نعلم هل العبادة مؤكدة؟ أولا ننظر في ثلاثة أشياء في الأدلة الواردة فيها، وفي صفتها في نفسها، وفي الذي يترتب عليها، وبذلك يعلم هل هي مؤكدة أولا، أما الأدلة فيعرف التأكيد فيها من جهات، إحداها تكرر الأدلة بطلبها؛ فإن ذلك يدل على الاهتمام، والاعتناء. الثانية: كثرة الأدلة إما في الكتاب، وإما في السنة، وإما فيهما، وإما إجماع؛ فإن الناصب للأدلة هو الله تعالى، فإذا نصب على طلب الشيء أدلة متعددة قولية، أو فعلية، أو بعضها قول وبعضها فعل من معصوم كفعله صلى الله عليه وسلم، أو فعل جميع الأمة كان ذلك دليلا على قوة طلب ذلك الشيء، الثالثة: هيئة الطلب أيضا بما ينضم إليها قد تدل على التأكيد، وأما صفتها في نفسها فبالنظر إلى موقعها في الدين، ويعرف ذلك بما يدل على اهتمام الشارع بها، وإن لم يكن طلبا كإقامتها في جماعة، وجعلها شعارا ظاهرا، وكالخطبة لها كل واحد من هذا يدل على التأكيد، وقد اجتمع ذلك كله في العيد والكسوف والاستسقاء، ووجد بعضه في التراويح مع ما فيها من الزيادة بكونها صلاة ليل، وصلاة الليل أفضل الصلاة بعد المكتوبة، وما فيها من إحياء رمضان، وطلب ليلة القدر، وقراءة القرآن، واستماعه، وأما الذي يترتب عليها من الأجر فقد يقال: إن كل ما كان أكثر أجرا، وأجزل ثوابا كان آكد من غيره، ولا شك أن الأكثر أجرا أفضل مما دونه، ولكن شرط التأكيد أن يكون مطلوبا بخصوصه كما قدمناه؛ فإنه قد وردت أشياء، وعد الشارع عليها ثوابا جزيلا، ولا يظهر لنا إطلاق التأكيد عليها؛ إذ لم يحصل طلب قوي فيها بخصوصها إما رفقا بالمكلف؛ فإن التأكيد فيه حث وحض، وقد يحمله ذلك على عدم الإخلال به فيجحف به، فاكتفى الشارع بذكر ثوابه عن التأكيد فيه لينشط له من يسره الله عليه، ويأتي به في جملة أفعال الخير كما ورد في تسبيحات وأذكار ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، وغير ذلك مما لم يرد فيه طلب حثيث، فإذا علمت ذلك ظهر لك أن التراويح من قبل المؤكدات لما اجتمع فيها من ذلك، ولا يمكن أحدا أن يقول: أن التراويح ليست مطلوبة بخصوصها، وإنما هي مطلوبة في جنس النوافل؛ إذ لو كانت كذلك لكان الاجتماع لها بدعة مذمومة كما في الصلاة ليلة النصف من شعبان، وليلة أول جمعة من رجب، وقد أجمع المسلمون على أن التراويح ليست كذلك، فثبت القول بطلبها بخصوصها، وانضم إلى ذلك كثرة الأدلة على ذلك، وكثرة ما فيها من الأجر، وعظم موقعها من الدين، وذلك [ ص: 417 ] أمارة التأكيد. هذا حاصل ما ذكره في الرسالة المذكورة، وذكر في إشراق المصابيح أقوال الأئمة من المذاهب المتبوعة الدالة على أنها سنة مؤكدة؛ فقال: أما الشافعية فنص الشافعي رضي الله عنه في مختصر البويطي. قال: والوتر سنة، وركعتا الفجر سنة، والعيدان والكسوف والاستسقاء سنة مؤكدة، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد الفجر قال: والكسوف والاستسقاء والعيدان أوكد، وقيام رمضان في معناها في التأكيد .

وقال أبو علي الطبري في الإفصاح: وقيام رمضان سنة مؤكدة، وقال أبو علي البندنيجي في الذخيرة: فأما قيام رمضان فهو سنة مؤكدة، وقال في تعليقه: إنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقرر إجماع الصحابة عليها ورد على من زعم أن عمر هو الذي سنه، وقال الحليمي: دلت صلاته بهم جماعة يعني النبي صلى الله عليه وسلم على أن القيام في شهر رمضان يتأكد حتى يداني الفرائض، وقال ابن التلمساني في شرح التنبيه: قيام رمضان سنة مؤكدة، وفي نهاية الاختصار المنسوب للنووي، ويؤكد التهجد والضحى والتراويح، وقال القاضي أبو الطيب: الذي سنت الجماعة آكد مما لم تسن له الجماعة، وعد التراويح مما سن له الجماعة، وقريب من ذلك كلام صاحب التنبيه، وأما الحنفية فإن لأبي حنيفة رضي الله عنه في ذلك ثلاث عبارات:

الأولى: ذكرها صاحب شرح المختار قال: روى أسد بن عمرو، عن أبي يوسف قال: سألت أبا حنيفة رحمه الله عن التراويح، وما فعله عمر رضي الله عنه فقال: التراويح سنة مؤكدة، ولم يخرجه عمر من تلقاء نفسه، ولم يكن فيه مبتدعا، ولم يأمر به إلا عن أصل لديه وعهد من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد سن عمر هذا وجمع الناس على أبي بن كعب فصلاها جماعة، والصحابة متوافرون منهم عثمان، وعلي، وابن مسعود، والعباس، وابنه، وطلحة، والزبير، ومعاذ، وأبي، وغيرهم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين، وما رد عليه واحد منهم، بل ساعدوه، ووافقوه وأمروا بذلك .

الثانية: ذكرها الحسام الشهيد عن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: القيام في شهر رمضان سنة لا ينبغي تركها .

الثالثة: في المبسوط لشمس الأئمة السرخسي رواية الحسن، عن أبي حنيفة أن التراويح سنة لا يجوز تركها، وأما أصحاب مذهبه، فقال العتابي في جوامع الفقه: وأما السنن منها التراويح، وأنها سنة مؤكدة، وقال صاحب المختار: التراويح سنة مؤكدة، وقال صاحب المبسوط: أجمعت الأمة على مشروعيتها، ولم ينكرها أحد من أهل القبلة، وأنكرها الروافض، وقال الكرماني: عندنا هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال صاحب القنية: لو أن أهل بلد تركوا التراويح قاتلهم الإمام، وفي منية المفتي: لو ترك الناس إقامتها في المسجد، وصلى كل في بيته فقد أساؤوا .

وقال الطحاوي: قيام رمضان واجب على الكفاية؛ لأنهم قد أجمعوا أنه لا يجوز للناس تعطيل المساجد عن قيام رمضان، وأما المالكية فإن إمامهم مالكا رضي الله عنه استشاره أمير المدينة في أن ينقصها عن العدد الذي كان أهلها يصلونه وهو تسع وثلاثون، فنهاه مالك رحمه الله تعالى، وقال ابن عبد البر : قيام رمضان سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم مندوب إليها مرغوب فيها، ولم يسن منها عمر بن الخطاب إذ أحياها إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه ويرضاه، وكان علي يستحسن ما فعل عمر في ذلك، ويفضله، ويقول: نور شهر الصوم، وأما الحنابلة: فقال الموفق بن قدامة في المغني: صلاة التراويح سنة مؤكدة، وأول من سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذه أقوال العلماء من المذاهب الأربعة في كونها سنة مؤكدة .




الخدمات العلمية