الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين .

جملة ( وقاتلوا ) معطوفة على جملة وليس البر إلخ ، وهو استطراد دعا إليه استعداد [ ص: 200 ] النبيء صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء سنة ست ، وتوقع المسلمين غدر المشركين بالعهد ، وهو قتال متوقع لقصد الدفاع لقوله : الذين يقاتلونكم وهذه الآية أول آية نزلت في القتال ، وعن أبي بكر الصديق أول آية نزلت في الأمر بالقتال قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا في سورة الحج ورجحه ابن العربي بأنها مكية وآية سورة البقرة مدنية ، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله أرسل عثمان بن عفان إلى أهل مكة ، فأرجف بأنهم قتلوه ، فبايع الناس الرسول على الموت في قتال العدو ثم انكشف الأمر عن سلامة عثمان .

ونزول هذه الآيات عقب الآيات التي أشارت إلى الإحرام بالعمرة والتي نراها نزلت في شأن الخروج إلى الحديبية ، ينبئ بأن المشركين كانوا قد أضمروا صد النبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين ثم أعرضوا عن ذلك لما رأوا تهيؤ المسلمين لقتالهم ، فقوله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إرشاد للمسلمين بما فيه صلاح لهم يومئذ ، ألا ترى أنه لما انقضت الآيات المتكلمة عن القتال عاد الكلام إلى الغرض الذي فارقته ، وذلك قوله : وأتموا الحج والعمرة لله الآيات ، على أنه قد وقع في صلح الحديبية ضرب مدة بين المسلمين والمشركين لا يقاتل فريق منهم الآخر ، فخاف المسلمون عام عمرة القضاء أن يغدر بهم المشركون إذا حلوا ببلدهم وألا يفوا لهم فيصدوهم عن العمرة ، فأمروا بقتالهم إن هم فعلوا ذلك .

وهذا إذن في قتال الدفاع لدفع هجوم العدو ثم نزلت بعدها آية " براءة " وقاتلوا المشركين كافة ناسخة لمفهوم هذه الآية عند من يرى نسخ المفهوم ولا يرى الزيادة على النص نسخا ، وهي أيضا ناسخة لها عند من يرى الزيادة على النص نسخا ولا يرى نسخ المفهوم ، وهي وإن نزلت لسبب خاص فهي عامة في كل حال يبادئ المشركون فيه المسلمين بالقتال ؛ لأن السبب لا يخصص ، وعن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن هاته الآية محكمة لم تنسخ ؛ لأن المراد بالذين يقاتلونكم الذين هم متهيئون لقتالكم ؛ أي : لا تقاتلوا الشيوخ والنساء والصبيان ؛ أي : القيد لإخراج طائفة من المقاتلين لا لإخراج المحاجزين ، وقيل : المراد الكفار كلهم ، فإنهم بصدد أن يقاتلوا . ذكره في الكشاف ؛ أي : ففعل " يقاتلونكم " مستعمل في مقارفة الفعل والتهيؤ له كما تقدم في قوله تعالى : إن ترك خيرا

والمقاتلة مفاعلة وهي حصول الفعل من جانبين ، ولما كان فعلها وهو القتل لا يمكن حصوله من جانبين ؛ لأن أحد الجانبين إذا قتل لم يستطع أن يقتل كانت المفاعلة في هذه المادة [ ص: 201 ] بمعنى مفاعلة أسباب القتل ؛ أي : المحاربة ، فقوله : ( وقاتلوا ) بمعنى وحاربوا ، والقتال الحرب بجميع أحوالها من هجوم ومنع سبل وحصار وإغارة واستيلاء على بلاد أو حصون .

وإذا أسندت المفاعلة إلى أحد فاعليها فالمقصود أنه هو المبتدئ بالفعل ، ولهذا قال تعالى : وقاتلوا في سبيل الله فجعل فاعل المفاعلة المسلمين ، ثم قال الذين يقاتلونكم فجعل فاعله ضمير عدوهم ، فلزم أن يكون المراد دافعوا الذين يبتدئونكم .

والمراد بالمبادأة دلائل القصد للحرب بحيث يتبين المسلمون أن الأعداء خرجوا لحربهم ، وليس المراد حتى يضربوا ويهجموا ؛ لأن تلك الحالة قد يفوت على المسلمين تداركها ، وهذا الحكم عام في الأشخاص لا محالة ، وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأمكنة والأزمنة على رأي المحققين ، أو هو مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع ، ولهذا قال تعالى بعد ذلك : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه تخصيصا أو تقييدا ببعض البقاع .

فقوله : ( ولا تعتدوا ) أي : لا تبتدئوا بالقتال ، وقوله : إن الله لا يحب المعتدين تحذير من الاعتداء ؛ وذلك مسالمة للعدو واستبقاء لهم وإمهال حتى يجيئوا مؤمنين ، وقيل : أراد ولا تعتدوا في القتال إن قاتلتم ، ففسر الاعتداء بوجوه كثيرة ترجع إلى تجاوز أحكام الحرب ، والاعتداء الابتداء بالظلم ، وتقدم عند قوله تعالى : فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم آنفا .

التالي السابق


الخدمات العلمية