الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          حدثني عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال نعم إذا رأت الماء

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          118 116 [ ص: 213 ] - ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة ) عبد الله بن عبد الأسد المخزومية ، ولدت بأرض الحبشة وكان اسمها برة فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب وروت عنه وعن أمها وعائشة وغيرهم ، وعنها ابنها أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعروة وعلي بن الحسين وغيرهم ، وماتت سنة ثلاث وسبعين وحضر ابن عمر جنازتها قبل أن يحج ويموت بمكة .

                                                                                                          ( عن ) أمها ( أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وفي رواية الزهري عن عروة عن عائشة عند مسلم أن المراجعة وقعت بين أم سليم وعائشة كما مر .

                                                                                                          قال الحافظ : ونقل القاضي عياض عن أهل الحديث أن الصحيح أن القصة وقعت لأم سلمة لا لعائشة ، وهذا يقتضي ترجيح رواية هشام أي على رواية الزهري وهو ظاهر صنيع البخاري ، لكن نقل ابن عبد البر عن الذهلي بذال ولام أنه صحح الروايتين معا ، وأشار أبو داود إلى تقوية رواية الزهري بأن مسافع بن عبد الله تابعه عن عروة عن عائشة ، وأخرج مسلم أيضا رواية مسافع ، وأخرج أيضا عن أنس قال : جاءت أم سليم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له وعائشة عنده .

                                                                                                          وروى أحمد عن إسحاق بن عبد الله عن جدته أم سليم وكانت مجاورة لأم سلمة ، فقالت أم سليم : يا رسول الله الحديث ، وفيه أن أم سلمة هي التي راجعتها وهذا يقوي رواية هشام .

                                                                                                          قال النووي : في شرح مسلم أي تبعا لعياض : يحتمل أن تكون عائشة وأم سلمة جميعا نكرتا على أم سليم وهو جمع حسن لأنه لا يمتنع حضور أم سلمة وعائشة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس واحد .

                                                                                                          وقال في شرح المهذب : يجمع بين الروايات بأن أنسا وعائشة وأم سلمة حضروا القصة ، قال الحافظ : والذي يظهر أن أنسا لم يحضرها وإنما تلقاها عن أمه أم سليم ، وفي مسلم من حديثه ما يشير إلى ذلك ، وروى أحمد عن ابن عمر نحو القصة وإنما تلقاها ابن عمر من أم سليم أو غيرها ( أنها قالت : جاءت أم سليم ) بضم السين وفتح اللام بنت ملحان بكسر الميم ابن خالد الأنصارية يقال اسمها سهلة أو رميثة أو مليكة أو أنيقة وهي الغميصاء بغين معجمة أو الرميصاء وكانت من الصحابيات الفاضلات ماتت في خلافة عثمان ( امرأة أبي طلحة ) زيد بن سهل البدري ( الأنصاري ) النجاري من كبار الصحابة ، زاد أبو داود : وهي أم أنس بن مالك ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : يا رسول الله إن الله لا يستحيي ) بياءين لغة وياء واحدة لغة تميم ( من الحق ) أي لا يأمر بالحياء فيه أو لا يمتنع من ذكره امتناع المستحي ، قاله الباجي وغيره ; لأن الحياء [ ص: 214 ] تغير وانكسار ، وهو يستحيل في حق الله تعالى .

                                                                                                          وقال الرافعي : معناه لا يتركه فإن من استحى من شيء تركه والمعنى : أن الحياء لا ينبغي أن يمنع من طلب الحق ومعرفته .

                                                                                                          قال ابن دقيق العيد : قد يقال إنما يحتاج إلى التأويل في الإثبات كحديث : " إن الله حيي كريم " وأما النفي فالمستحيلات على الله تعالى تنفى ، ولا يشترط أن يكون النفي ممكنا ، وجوابه أنه لم يرد النفي على الاستحياء مطلقا بل ورد على الاستحياء من الحق ، فيقتضي بالمفهوم أنه يستحي من غير الحق فعاد إلى جانب الإثبات فاحتيج إلى تأويله .

                                                                                                          قال الباجي وغيره : وقدمت ذلك بين يدي قولها لما احتاجت إليه من السؤال عن أمر يستحي النساء من ذكره ولم يكن لها بد منه .

                                                                                                          قال الولي العراقي : وهذا أصل فيما يفعله البلغاء في ابتداء كلامهم من التمهيد لما يأتون به بعده ، ووجه حسنه أن الاعتذار إذا تقدم أدركته النفس صافيا من العيب فتدفعه ، وإذا تأخر استقبلت النفس المعتذر عنه فأدركت قبحه حتى يرفعه العذر والدفع أسهل من الرفع .

                                                                                                          ( هل على المرأة من ) زائدة وسقطت في رواية إسماعيل بن أبي أويس ( غسل إذا هي احتلمت ) افتعلت من الحلم بضم المهملة وسكون اللام ، وهو ما يراه النائم في منامه ، يقال منه حلم واحتلم ، والمراد هنا أمر خاص منه ، وهو الجماع ، ولأحمد عن أم سليم أنها قالت : يا رسول الله إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل ؟ وفي ربيع الأبرار عن ابن سيرين قال : " لا يحتلم ورع إلا على أهله " .

                                                                                                          ( فقال : نعم إذا رأت الماء ) أي المني بعد الاستيقاظ ، زاد البخاري من رواية أبي معاوية عن هشام : فغطت أم سلمة يعني وجهها وقالت : يا رسول الله أوتحتلم المرأة ؟ قال : " نعم ، تربت يمينك فلم يشبهها ولدها " وهو عطف على مقدر يظهر من السياق ، أي أترى المرأة الماء وتحتلم ؟ وكذا روى هذه الزيادة أصحاب هشام عنه سوى مالك فلم يذكرها ، وللبخاري أيضا من طريق يحيى القطان عن هشام : فضحكت أم سلمة ، ويجمع بينهما بأنها تبسمت تعجبا وغطت وجهها استحياء .

                                                                                                          وللبخاري من طريق وكيع عن هشام ، فقالت لها أم سلمة : يا أم سليم فضحت النساء ، وكذا لأحمد من حديث أم سليم .

                                                                                                          وهذا يدل على أن كتمان ذلك من عادتهن ، وفيه وجوب غسل المرأة بالإنزال في المنام .

                                                                                                          وروى أحمد أن أم سلمة قالت : يا رسول الله وهل للمرأة ماء ؟ فقال : " هن شقائق الرجال " .

                                                                                                          ولعبد الرزاق فقال : إذا رأت إحداكن الماء كما يراه الرجل ، وفيه رد على من زعم أن ماء المرأة لا يبرز وإنما يعرف إنزالها بشهوتها .

                                                                                                          وحمل قوله : إذا رأت الماء أي علمت به لأن وجود العلم هنا متعذر لأنه إن أراد به علمها بذلك وهي نائمة فلا يثبت به حكم ، لأن الرجل لو رأى أنه جامع وعلم أنه أنزل في النوم ثم استيقظ فلم ير بللا لم يجب عليه الغسل اتفاقا ، فكذلك المرأة وإن أراد به علمها بذلك بعد أن استيقظت فلا يصح لأنه لا يستمر في اليقظة ما كان في النوم إلا إذا [ ص: 215 ] كان مشاهدا ، فحمل الرؤيا على ظاهرها هو الصواب ، وفيه استفتاء المرأة نفسها ، وسياق صور الأحوال في الوقائع الشرعية ، وجواز التبسم في التعجب ، وقد سألت عن هذه المسألة أيضا خولة بنت حكيم عند أحمد والنسائي وابن ماجه وفي حديثها فقال ليس عليها غسل حتى تنزل كما ينزل الرجل كما ليس على الرجل غسل إذا رأى ذلك ولم ينزل " وسهلة بنت سهيل عند الطبراني وبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبة ذكره الحافظ ، وفي الحديث ما كان عليه النساء من الاهتمام بأمر دينهن والسؤال عنه .

                                                                                                          وقال - صلى الله عليه وسلم - : " شفاء العي السؤال " ، وقالت عائشة : " رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن " وأخرجه البخاري في الطهارة عن عبد الله بن يوسف ، وفي الأدب عن إسماعيل كلاهما عن مالك به ، وتابعه أبو معاوية وغيره عن هشام في الصحيحين .




                                                                                                          الخدمات العلمية