الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
قال الرازي: (وثانيها أنا لا نعقل حدوث شيء وتكوينه إلا في زمان مخصوص، ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان البتة ).

فيقال: لو قال: لم نتوهم ولم نتخيل، أو لم نحس: لكان مناسبا للفظ دعواه، حيث ادعى أن معرفة أفعال الله على خلاف الحس والخيال ولم يدع أنها على خلاف المعقول، فإن [ ص: 277 ] ذلك يسد عليه طريق الإقرار بها، ويوجب جحودها حيث لا يثبت ما يخالف المعقول؛ إلا أن يفسر المخالف للمعقول بعدم النظير وحينئذ فلا فرق بين مخالفة المعقول والمحسوس في أن ذلك لا يكون مانعا في وجود ما يخالف المحسوس والمعقول، وهو لا يتم غرضه إلا أن يبين الفرق بينهما بثبوت ما يحيله الحس دون العقل كما قدمناه.

وتلخيص "النكتة" أن يقال: إذا لم تعقل حدوث شيء إلا في زمان وأثبت ما لم تعقله فهل هذه حجة لك في إثبات ما تعلم بعقلك امتناعه أم لا؟ فإن كان هذا حجة لك في إثبات ما يعلم العقل امتناعه لم يكن له بعد هذا أن يحيل وجود شيء بعقله؛ بل يجوز وجود الممتنعات المعلوم امتناعها بالعقل ضرورة ونظرا، وهذا لا يقوله عاقل. وإن قال: ليس هذا حجة في إثبات ما يعلم بالعقل امتناعه. لم يكن ذلك نافعا لك في محل النزاع؛ لأن المنازع يدعي أنه يعلم امتناع ما أثبته بفطرته، وهذا لم يدل على إحالة ما يعلم امتناعه بالعقل كما سلمته، ولا بالحس لأنك لم تذكره. [ ص: 278 ]

ثم يقال: كوننا لم نشهد حدوث شيء إلا في زمان بمنزلة كوننا لم نشهد حدوث شيء إلا في مكان، ثم كما أن هذا يقتضي افتقار كل مكان إلى مكان، فكذلك، ذاك يقتضي افتقار كل زمان إلى زمان، وأكثر ما في ذلك عدم نظير فيما شهدناه، ومجرد عدم النظير لا يكون حجة على نفي الشيء المعلوم بحس أو عقل، فلم يقل أحد من العقلاء إن الشيء الذي يعلم ثبوته لا يجوز الإقرار به حتى يكون له مثل ونظير مطابق له، وهذا كما أنا لم نشهد شيئا إلا وله خالق، ثم لا يجب أن يكون للخالق خالق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس يسألونكم حتى يقولوا هذا" وقد أخرجاه في الصحيحين عن عروة، عن أبي هريرة، ورواه [ ص: 279 ] أبو داود في الرد على الجهمية من سننه، ورواه النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله. فمن وجد من [ ص: 280 ] ذلك شيئا فليقل آمنت بالله ) وهو أيضا فيهما عن عروة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي أحدكم الشيطان فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته" ورواه مسلم من حديث محمد [ ص: 281 ] بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس يسألونكم عن العلم، حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟ قال: وهو آخذ بيد رجل -يعني قد سأله- فقال: صدق الله ورسوله، قد سألني اثنان وهذا الثالث، أو قال سألني واحد وهذا الثاني" ورواه أيضا أبو داود والنسائي من طريق آخر، وفيه: "فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد الله الصمد، [ ص: 282 ] لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثا".

ويقال له: الزمان الذي رأينا الأشياء تحدث فيه هو مقدار حركة الشمس والقمر أو ما يشبه ذلك، إذا لم نشهد زمانا غير مقدار الحركة أو ما يقرب من ذلك -لتنوع عبارات الناس في تفسير الزمان- وإذا كان الزمان من جملة الأعراض مفتقرا إلى الحركة والمتحرك إذا كان له وجود في الخارج، فمعلوم أنا شهدنا حدوث سبب الزمان الموجب له المتقدم عليه بالذات وهو الحركات، والحركة والزمان متقاربان في الوجود، والحركة متقدمة على الزمان بالذات، وإذا كان كل منهما مقارنا للآخر لا ينفك عنه فليس القول باحتياج الحركة التي هي الحدوث والانتقال إلى الزمان بأولى من القول باحتياج الزمان إلى الحركة والحدوث؛ بل هذا الثاني أقرب: لأن افتقار المعلول إلى العلة، والمشروط إلى الشرط، والمسبب إلى السبب أظهر من الأول.

يوضح ذلك أن الزمان قد يراد به الليل والنهار، كما يراد بالمكان السموات والأرض. وهذا هو الذي يعنيه طوائف منهم [ ص: 283 ] الرازي في كتابه هذا، كما ذكر ذلك حيث قال: (الحجة الحادية عشرة: قوله: قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله [الأنعام: 12 ] قال: (وهذا يشعر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى، وقوله تعالى: وله ما سكن في الليل والنهار [الأنعام: 13 ] وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى، ومجموع الآيتين يدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان )، قال: (وهذا الوجه ذكره أبو مسلم الأصبهاني في [ ص: 284 ] تفسيره: واعلم أن في تقديم ذكر المكان على ذكر الزمان سرا شريفا وحكمة عالية )، يشير إلى أنه سببه كما تقدم.

قلت: وإذا كان المراد بالمكان والمكانيات السموات والأرض وما فيهما وبالزمان والزمانيات الليل والنهار وما سكن فيهما: فمن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [الأنعام: 1 ] وقد قال تعالى: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [آل عمران: 190 ] ونحو ذلك في القرآن، ومعلوم أن النهار تابع للشمس، وأما الليل فسواء كان عدم النور أو كان وجوديا عرضيا كما يقوله قوم، أو أجسام سود كما يقوله بعضهم، فالله جاعل ذلك كله، وهو سبحانه وتعالى كما قال عبد الله بن مسعود: إن ربكم [ ص: 285 ] ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه" وقد جاء في قوله تعالى: ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا [مريم: 62 ] أن أهل الجنة يعرفون مقدار البكرة والعشي بأنوار تظهر من جهة العرش، فيكون بعض الأوقات عندهم أعظم نورا من بعض، إذ ليس عندهم ظلمة، وهذه الأنوار المخلوقة كلها [ ص: 286 ] خلقها الله تعالى.

فقول القائل بعد هذا: "لا نعقل حدوث شيء وتكوينه إلا في زمان مخصوص، ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان" مثل أن يقال: أنا لم أعقل حدوث شيء إلا في ليل أو نهار، ثم حكمنا بأن الليل والنهار حدثا لا في ليل ولا نهار، ولم نعقل شيئا إلا في السموات والأرض، ثم عقلنا حدوث السموات والأرض لا في سموات وأرض. ومعلوم أن هذا الكلام من أفسد الكلام في الحس والعقل؛ فإن الإنسان كما يشهد حدوث الأشياء لا في ليل ولا نهار فهو يشهد أيضا [ ص: 287 ] حدوث الليل والنهار من غير ليل ونهار.

وقد يراد بالزمان مجرد التقدير بالحوادث كما يقال: هذا قبل هذا بكذا وكذا، وهذا بعد هذا بكذا وكذا. فيكون المراد به تقدير ما بين الحوادث بحوادث أخر، وهذا التقدير من جنس العدد للمعدودات فإنه بالعدد يظهر زيادة أحد المعدودين على الآخر ونقصانه عنه ومساواته له، ثم مع ذلك فليس العدد للمعدودات أمرا موجودا في الخارج لجوهر قائم بنفسه أو عرض قائم فيها؛ وإنما هو من باب الفصل والتمييز بين بعضها وبعضها، وهي ممتازة ومنفصلة بذواتها وأعيانها لا بشيء غير ذلك. والعدد لها كالحيز لها، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وكذلك الوقت لها؛ ولهذا يفرق بين الوقت والعدد؛ كما يروى عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن ذكر الله مأمور به في كل حال ليس له وقت ولا عدد" أي ليس له وقت مخصوص، [ ص: 288 ] ولا عدد مخصوص؛ كالصلاة وغيرها.

وهذا موضع تغلط فيه الأذهان، حيث يشتبه عليها ما يأخذه الذهن من الحقائق الموجودة في الخارج بنفس الحقائق الموجودة في الخارج، كما يشتبه على بعض الناس الصور الذهنية الكلية المطلقة أنها توجد في الخارج، حتى يظن أنها بعينها موجودة في الخارج، فالعلم بالحقائق وبعددها وزمانها ومكانها كله متقارب، ولا ريب أن الحقائق موجودة في نفسها متميزة بعضها عن بعض بنفسها بما فيها من الصفات القائمة بها، وما يتبع ذلك من حيزها ووقتها وعددها، وليست هذه الأمور جواهر وأعراضا منفصلة عن تلك الحقائق؛ بل هي تارة نسب بينها وبين غيرها إنما تعقل باعتبار الغيرين؛ ولهذا يكثر تنازع الناس في مثل هذه الأمور، هل هي أمور وجودية أو عدمية، وبكل حال فقول القائل: إن كل وقت يفتقر إلى وقت وكل حيز إلى حيز بمنزلة قوله: كل عدد يفتقر إلى عدد، وقوله: كل حقيقة قائمة بنفسها تفتقر إلى حقيقة قائمة بنفسها.

ومما يوضح ذلك أن يقال له أيضا: قول القائل: "ثم حكمنا [ ص: 289 ] بأن الزمان حدث لا في زمان" أضعف من قول القائل: حكمنا بأن الحركة حدثت بلا حركة. فإن الزمان هو مفتقر إلى الحركة دون زمان آخر، والحركة هي سبب الزمان وإن كانت مقارنة له، وليست مفتقرة إلى حركة أخرى. فالتعجب من حدوث حركة بلا حركة وهي سبب الزمان وأغنى عن الزمان من الزمان عنها أقرب إلى الصواب من تعجب المتعجب من حدوث زمان في غير زمان. وإذا كان التعجب من عدم افتقار كل حركة إلى حركة نوعا من السخف والهذيان، فالتعجب من عدم افتقار كل زمان إلى زمان أبلغ منه في السخف والهذيان، كما يتعجب من عدم افتقار كل فاعل إلى فاعل. وهذا السؤال من آخر ما يورده، ويسأل عنه الشيطان، لعلمه بأنه آخر مراتب الباطل والهذيان ! !

التالي السابق


الخدمات العلمية