الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية الثانية قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله } : فيها ثلاث عشرة مسألة : المسألة الأولى قوله : { فإذا بلغن أجلهن } يعني قاربن بلوغ أجلهن يعني الأجل المقدر في انقضاء العدة . والعبارة عن مقاربة البلوغ [ بالبلوغ ] سائغ لغة ومعلوم شرعا .

                                                                                                                                                                                                              ومنه ما ثبت في الصحيح أن ابن أم مكتوم كان لا ينادي حتى يقال له أصبحت يعني قاربت الصبح ، ولو كان لا ينادي حتى يرى [ وكيله ] الصبح عليه ، ثم يعلمه هو ، فيرقى على السطح بعد ذلك يؤذن لكان الناس يأكلون جزءا من النهار بعد طلوع الفجر ، فدل على أنه إنما كان يقال له : أصبحت أي قاربت ، فينادي فيمسك الناس عن الأكل في وقت ينعقد لهم فيه الصوم قبل طلوع الفجر ، أو معه . وفي معناه قول الشماخ :

                                                                                                                                                                                                              وتشكو بعين ما أكل ركابها وقيل المنادي أصبح القوم أدلج

                                                                                                                                                                                                              يعني قارب القوم الصباح . [ ص: 241 ] المسألة الثانية قوله : { فأمسكوهن } يعني بالرجعة ، أو فارقوهن ، وهي : المسألة الثالثة معناه أو اتركوهن على حكم الطلاق الأول ; فيقع الفراق عند انقضاء العدة بالطلاق الماضي لترك الإمساك بالرجعة ; إذ قد وقع الفراق به ; وإنما له الاستدراك بالتمسك بالتصريح بالرجعة المناقض للتصريح بالطلاق ، وسمي التمادي على حكم الفراق وترك التمسك بالتصريح بالرجعة فراقا مجازا .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة قوله : { بمعروف } : فيه قولان : أحدهما بمعلوم من الإشهاد .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : القصد إلى الخلاص من النكاح عند تعذر الوصلة مع عدم الألفة لا بقصد الإضرار ، حسبما كان يفعله أهل الجاهلية ; كانوا يطلقون المرأة حتى إذا أشرفت على انقضاء العدة أشهد برجعتها حتى إذا مر لذلك مدة طلقها هكذا ، كلما ردها طلقها ، فإذا أشرفت على انقضاء العدة راجعها ، لا رغبة ; لكن إضرارا وإذاية ، فنهوا أن يمسكوا أو يفارقوا إلا بالمعروف ، كما تقدم في سورة البقرة في قوله : { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } .

                                                                                                                                                                                                              وقوله : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } . المسألة الخامسة قوله : { فإذا بلغن } : يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا ادعت ذلك فيما يمكن ، على ما بيناه في قوله : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } في سورة البقرة . المسألة السادسة { فأمسكوهن بمعروف } : اختلف العلماء فيه كاختلافهم في قوله : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } وقد بيناه في سورة البقرة ، تمامه أن الزوج له الرجعة في العدة بلا خلاف ، والرجعة تكون بالقول والفعل عندنا ، وبه قال أبو حنيفة والليث . وقال الشافعي : لا تصح إلا بالقول . [ ص: 242 ]

                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف فيه التابعون قديما ، بيد أن علماءنا قالوا : إن الرجعة لا تكون بالفعل ، حتى تقترن به النية ، فيقصد بالوطء أو القبلة الرجعة وبالمباشرة كلها .

                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة والليث : الوطء مجردا رجعة ، وهذا ينبني على أصل ، هو : المسألة السابعة هل الرجعية محرمة الوطء أم لا ؟ فعندنا أنها محرمة الوطء ، وبه قال ابن عمر وعطاء .

                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة : وطؤها مباح ، وبه قال أحمد في إحدى روايتيه .

                                                                                                                                                                                                              واحتجوا بأنه طلاق لا يقطع النكاح ; فلم يحرم الوطء ، كما لو قال : إن قدم زيد فأنت طالق . وهذا لا يصح ; لأن الطلاق المعلق بقدوم زيد لم يقع ، هذا طلاق واقع فيجب أن يؤثر في تحريم الوطء المقصود من العقد ، لا سيما وهي جارية [ به ] إلى بينونة خارجة عن العصمة ; فإذا ثبت أنها محرمة الوطء فلا بد من قصد الرد ، وحينئذ يصح معه الرد .

                                                                                                                                                                                                              قال الشافعي : لا تكون الرجعة بالفعل ، وإنما تكون بالقول ولا معتمد له من القرآن والسنة ، ولنا كل ذلك ; فأما القرآن فقوله : { فأمسكوهن بمعروف } ; وهذا ظاهر في القول والفعل ; إذ الإمساك يكون بهما عادة ، ويكون شرعا ، ألا ترى أن خيار المعتقة يكون إمساكها بالقول بأن تقول : اخترت ، وبالفعل بأن تمكن من وطئها ، ولذلك قال تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } والرد يكون تارة بالقول ، وتارة بالفعل .

                                                                                                                                                                                                              ومن عجيب الأمر أن للشافعي قولين في قول الرجل للمطلقة الرجعية أمسكتها ، هل يكون رجعة أم لا ؟ قال القاضي أبو مظفر الطبري : لا يكون رجعة ; لأن استباحة الوطء لا تكون إلا بلفظين ، وهما قوله : راجعت ، أو رددت ، كما يكون النكاح بلفظين وهما قوله : زوجت ، أو نكحت ، وهذا من ركيك الكلام الذي لا يليق بمنصب ذلك الإمام من وجهين : أحدهما أنه تحكم . [ ص: 243 ]

                                                                                                                                                                                                              والثاني أنه لو صح أن يقف على [ لفظين لكان وقوفه على ] لفظي القرآن ، وهما رددت وأمسكت اللذان جاءا في سورة البقرة ، وها هنا أولى من لفظ راجعت الذي لم يأت في القرآن ، بيد أنه جاء في السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : مره فليراجعها ، كما جاء في السنة لفظ ثالث في النكاح ، وهو في شأن الموهوبة ; إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم : اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن ; فذكر النكاح بلفظ التمليك .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثامنة من قول علمائنا كما تقدم : إن الرجعة تكون بالقول والفعل مع النية ، فلو خلا ذلك في نية ، أو كانت نية دون قول أو فعل ما حكمه ؟ قال أشهب في كتاب محمد : إذا عرى القول أو الفعل عن النية فليسا برجعة .

                                                                                                                                                                                                              وفي المدونة أن الوطء العاري من نية ليس برجعة ، والقول العاري عن النية جعله رجعة ; إذا قال : راجعتك وكنت هازلا ، فعلى قول علي بأن النكاح بالهزل لا يلزم فلا يكون رجعة ; فإن كانت رجعة بالنية دون قول أو فعل فحمله القرويون على قول مالك في الطلاق واليمين إنه يصح بالنية دون قول ، ولا يصح ذلك حسبما بيناه في المسائل الخلافية ; لأن الطلاق أسرع في الثبوت من النكاح .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية