الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما فضله : فكثير شهير ، ومنه ما في الخلاصة وغيرها النظر في كتب أصحابنا من غير سماع أفضل من قيام الليل [ ص: 39 ] وتعلم الفقه أفضل من تعلم باقي القرآن وجميع الفقه لا بد منه .

وفي الملتقط وغيره من محمد : لا ينبغي للرجل أن يعرف بالشعر والنحو ; لأن آخر أمره إلى المسألة وتعليم الصبيان ، ولا بالحساب لأن آخر أمره إلى مساحة الأرضين ، ولا بالتفسير ; لأن آخر أمره إلى التذكير والقصص بل يكون علمه في الحلال والحرام وما لا بد منه من الأحكام ، كما قيل :

إذا ما اعتز ذو علم بعلم فعلم الفقه أولى باعتزاز     فكم طيب يفوح ولا كمسك
وكم طير يطير ولا كبازي

وقد مدحه الله تعالى بتسميته خيرا بقوله تعالى - { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } - وقد فسر الحكمة زمرة أرباب التفسير بعلم الفروع الذي هو علم الفقه ومن هنا قيل :

وخير علوم علم فقه لأنه     يكون إلى كل العلوم توسلا
فإن فقيها واحدا متورعا     على ألف ذي زهد تفضل واعتلى

[ ص: 40 ] وهما مأخوذان مما قيل للإمام محمد الفقيه :

تفقه فإن الفقه أفضل قائد     إلى البر والتقوى وأعدل قاصد
وكن مستفيدا كل يوم زيادة     من الفقه واسبح في بحور الفوائد
فإن فقيها واحدا متورعا     أشد على الشيطان من ألف عابد

ومن كلام علي رضي الله عنه : [ ص: 41 ]

ما الفضل إلا لأهل العلم أنهم     على الهدى لمن استهدى أدلاء
ووزن كل امرئ ما كان يحسنه     والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم ولا تجهل به أبدا     الناس موتى وأهل العلم أحياء

وقد قيل : العلم وسيلة إلى كل فضيلة ، العلم يرفع المملوك إلى مجالس الملوك ، لولا العلماء لهلك الأمراء .

وإنما العلم لأربابه     ولاية ليس لها عزل [ ص: 42 ]
إن الأمير هو الذي     يضحى أميرا عند عزله
إن زال سلطان الولاية كان في سلطان فضله



التالي السابق


. ( قوله : من غير سماع ) أي من المعلم ، وإذا كان النظر والمطالعة وهو دون السماع أفضل من قيام الليل فما بالك بالسماع . ا هـ . ح .

أقول : وهذا إذا كان مع الفهم لما في فصول العلامي : من له ذهن يفهم الزيادة أي على ما يكفيه وقدر أن يصلي ليلا وينظر في العلم نهارا فنظره في العلم نهارا وليلا أفضل ا هـ .

( قوله : أفضل من قيام الليل ) أي بالصلاة ونحوها وإلا فهو من قيام الليل وإنما كان أفضل ; لأنه من فروض الكفاية إن كان زائدا على ما يحتاجه : وإلا فهو فرض [ ص: 39 ] عين .

( قوله : وتعلم الفقه إلخ ) في البزازية تعلم بعض القرآن ووجد فراغا ، فالأفضل الاشتغال بالفقه ; لأن حفظ القرآن فرض كفاية ، وتعلم ما لا بد من الفقه فرض عين . قال في الخزانة : وجميع الفقه لا بد منه : قال في المناقب : عمل محمد بن الحسن مائتي ألف مسألة في الحلال والحرام لا بد للناس من حفظها . ا هـ . وظاهر قوله وجميع الفقه لا بد منه أنه كله فرض عين ، لكن المراد أنه لا بد منه لمجموع الناس فلا يكون فرض عين على كل واحد ، وإنما يفرض عينا على كل واحد ما يحتاجه ; لأن تعلم الرجل مسائل الحيض وتعلم الفقير مسائل الزكاة والحج ونحو ذلك فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ومثله حفظ ما زاد على ما يكفيه للصلاة ، نعم قد يقال تعلم باقي الفقه أفضل من تعلم باقي القرآن لكثرة حاجة العامة إليه في عباداتهم ومعاملاتهم وقلة الفقهاء بالنسبة إلى الحفظة تأمل .

( قوله : أن يعرف ) أي يشتهر به ، وفيه إشارة إلى أن المطلوب أن يعرف من ذلك ما يعينه على المقصود ; لأن ما عدا الفقه وسيلة إليه فلا ينبغي أن يصرف عمره في غير الأهم ، وما أحسن قول ابن الوردي :

والعمر عن تحصيل كل علم يقصر فابدأ منه بالأهم وذلك الفقه فإن منه
ما لا غنى في كل حال عنه

.

( قوله : إلى المسألة ) أي سؤال الناس بأن يمدحهم بشعره فيعطونه دفعا لشره وخوفا من هجوه وهجره ، وقوله وتعليم الصبيان : أي تعليمهم النحو ، وإنما خصهم لما اشتهر أن النحو علم الصبيان إذ قلما يتعلمه الكبير ، وفي كلامه لف ونشر مرتب .

( قوله : التذكير ) أي الوعظ .

( قوله : والقصص ) الأنسب أن يكون بفتح القاف ليكون عطفه على التذكير عطف مصدر على مصدر وإن جاز أن يكون بكسرها جمع قصة . ا هـ . ح .

( قوله : بل يكون علمه ) أي الذي يعرف ويشتهر به .

( قوله : كما قيل ) أي أقول ذلك مماثلا لما قيل أو لأجل ما قيل ، فالكاف للتشبيه أو للتعليل .

( قوله : باعتزاز ) أي اعتزاز صاحبه به .

( قوله : ولا كمسك ) الواو إما للعطف على مقدر : أي لا كعنبر ولا كمسك ، ونكتة الحذف المبالغة لتذهب النفس كل مذهب ممكن ، أو للحال بإضمار فعل : أي ولا يفوح كمسك .

( قوله : ولا كباز ) يستعمل بالياء المثناة التحتية بعد الزاي وبدونها كما في القاموس .

( قوله : زمرة ) بالضم : الفوج والجماعة في تفرقة قاموس .

( قوله : ومن هنا ) أي من أجل ما ذكر هنا من مدح الله تعالى إياه .

( قوله : إلى كل العلوم ) كذا فيما رأيت من النسخ ، وكأن نسخة ط إلى كل المعالي حيث قال متعلق بتوسلا . والمعالي : المراتب العالية جمع معلاة ، محل العلو . ا هـ . والتوسل : التقرب أي ذا توسل إلى المعالي أو إلى [ ص: 40 ] العلوم ; لأن الفقه المثمر للتقوى والورع يوصل به إلى غيره من العلوم النافعة والمنازل المرتفعة - { واتقوا الله ويعلمكم الله } - والحديث { من عمل بما علم علمه الله علم ما لم يعلم } .

( قوله : فإن فقيها إلخ ) لأن العابد إذا لم يكن فقيها ربما أدخل عليه الشيطان ما يفسد عبادته ، وقيد الفقيه بالمتورع إشارة إلى ثمرة الفقه التي هي التقوى إذ بدونها يكون دون العابد الجاهل حيث استولى عليه الشيطان بالفعل . قال في الإحياء . للورع أربع مراتب : الأولى ما يشترط في عدالة الشهادة ، وهو الاحتراز عن الحرام الظاهر . الثانية ورع الصالحين ، وهو التوقي من الشبهات التي تتقابل فيها الاحتمالات . الثالثة ورع المتقين ، وهو ترك الحلال المحض الذي يخاف منه أداؤه إلى الحرام . الرابعة ورع الصديقين ، وهو الإعراض عما سوى الله تعالى ا هـ ملخصا .

( قوله : على ألف ) متعلق بقوله اعتلى وبقدر نظيره التفضل . ا هـ . ط ، أو هو من باب التنازع على القول بجوازه في المتقدم .

( قوله : ذي زهد ) صفة لموصوف محذوف أي ألف شخص صاحب زهد . والزهد في اللغة : ترك الميل إلى الشيء . وفي اصطلاح أهل الحقيقة : هو بغض الدنيا والإعراض عنها . وقيل هو ترك راحة الدنيا طلبا لراحة الآخرة . وقيل هو أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك ا هـ سيد .

( قوله : تفضل واعتلى ) أي زاد في الفضل وعلو الرتبة .

( قوله : وهما مأخوذان ) أي هذان البيتان مأخوذ معناهما .

( قوله : مما قيل ) يحتمل أن المراد مما نسب أو مما أنشد ، فعلى الأول تكون الأبيات للإمام محمد ، وعلى الثاني لغيره أنشدها له بعض أشياخه .

( قوله : تفقه إلخ ) أي صر فقيها والقائد هنا بمعنى الموصل . والبر قال في القاموس : الصلة والجنة والخير والاتساع في الإحسان ا هـ . والتقوى قال السيد : هي في اللغة بمعنى الاتقاء ، وهو اتخاذ الوقاية . وعند أهل الحقيقة : الاحتراز بطاعة الله تعالى عن عقوبته ، وهو صيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعل أو ترك . والقاصد قال في القاموس : القريب : أي وأعدل طريق قريب . ويحتمل أن يكون بمعنى مقصود كساحل بمعنى مسحول ، والزيادة مصدر بمعنى اسم المفعول ، وقوله من الفقه متعلق بزيادة أو بمستفيد ، أو السبح : قطع الماء عوما شبه به التفقه استعارة تصريحية ، وإضافة البحور إلى الفوائد من إضافة المشبه به إلى المشبه . والفائدة : ما استفدته من علم أو مال ، والمراد هنا الأول ، والشيطان : من شاط بمعنى احترق ، أو من شطن بمعنى بعد لبعد غوره في الضلال ، وقد عقد في البيت الأخير بعض ما ذكره في الإحياء ، ورواه الدارقطني والبيهقي من قوله صلى الله عليه وسلم { ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين ، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ، ولكل شيء عماد وعماد الدين الفقه } .

( قوله : ومن كلام علي رضي الله عنه إلخ ) عزا هذه الأبيات له في الإحياء أيضا . قال بعضهم : وهي ثابتة في ديوانه المنسوب إليه ، وأولها :

الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهمو آدم والأم حواء
وإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللأحساب آباء
إن لم يكن لهمو من أصلهم شرف يفاخرون به فالطين والماء
وإن أتيت بفخر من ذوي نسب فإن نسبتنا جود وعلياء

[ ص: 41 ]

( قوله : ما الفضل ) الذي في الإحياء ما الفخر ، وأل في العلم للعهد : أي العلم الشرعي الموصل إلى الآخرة .

( قوله : أنهم ) بفتح الهمزة على حذف لام العلة : أي لأنهم . أو بالكسر والجملة استئنافية . والمقصود منها التعليل ط .

( قوله : على الهدى ) أي الرشاد قاموس ، وهو متعلق بقوله أدلاء جمع دال اسم فاعل من دل ، وكذا قوله لمن استهدى : أي طلب الهداية .

( قوله : ووزن ) أي قدر كل امرئ . أي حسنه بما كان يحسنه أفاده البيضاوي ، فقدر الصانع على مقدار صنعته . ومن أحسن علوم الآداب فقدره على قدرها . ومن أحسن علم الفقه فقدره عظيم لعظمه . فالحاصل أن من أحسن شيئا فمقامه على قدره ا هـ ط .

( قوله : والجاهلون ) أي بالعلم الشرعي . فيشمل العالمين بغيره ، بل هم أشد عداوة لعلماء الدين من العوام قال ط : وسبب العداوة من الجاهل عدم معرفة الحق إذا أفتى عليه أو رأى منه ما يخالف رأيه ورؤية إقبال الناس عليه .

( قوله : ولا تجهل به أبدا ) الذي في الإحياء : ولا تبغي به بدلا .

( قوله : الناس موتى ) أي حكما لعدم النفع كالأرض الميتة التي لا تنبت . قال تعالى - { أو من كان ميتا فأحييناه } - أي جاهلا فعلمناه - { وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } - وهو العلم - { كمن مثله في الظلمات } - وهو الجاهل الغارق في ظلمات الجهل أو موتى القلوب . قال في الإحياء وقال فتح الموصلي : المريض إذا منع الطعام والشراب والدواء أليس يموت ؟ قالوا بلى ، قال : كذلك القلب إذا منع عنه الحكمة والعلم ثلاثة أيام يموت ، ولقد صدق فإن غذاء القلب العلم والحكمة وبه حياته ، كما أن غذاء الجسد الطعام . ومن فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم إلخ قال الشاعر :

أخو العلم حي خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى يظن من الأحياء وهو عديم

.

( قوله : العلم يرفع المملوك إلخ ) قال في الإحياء وقال عليه الصلاة والسلام { إن الحكمة تزيد الشريف شرفا وترفع المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك } وقد نبه بهذا على ثمرته في الدنيا ، ومعلوم أن الآخرة خير وأبقى . ا هـ . ثم ذكر عن سالم بن أبي الجعد قال : اشتراني مولاي بثلثمائة درهم فأعتقني ، فقلت : بأي حرفة أحترف ؟ فاحترفت بالعلم ، فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائرا فلم آذن له .

( قوله : وإنما العلم إلخ ) هذا بيت من بحر السريع ، وقوله لأربابه متعلق بمحذوف حال من ولاية ; لأن نعت النكرة إذا قدم عليها أعرب حالا أو صفة للعلم ، وإنما لم يعزل صاحبه ; لأنه ولاية إلهية لا سبيل للعباد إلى عزله منها : والمعتمد أن أولي الأمر في قوله تعالى - { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } - هم العلماء كما سيذكره الشارح آخر الكتاب . وفي الإحياء قال أبو الأسود : ليس شيء أعز من العلم ، الملوك حكام على الناس ، والعلماء حكام على الملوك . ا هـ . وفي معناه قول الشاعر :

إن الملوك ليحكمون على الورى وعلى الملوك لتحكم العلماء

[ ص: 42 ]

( قوله : إن الأمير إلخ ) البيتان من مجزوء الكامل المرفل ، يعني أن الأمير الكامل ليس هو من إذا عزل صار من آحاد الرعية ، بل هو الذي إذا عزل من إمارة الولاية يبقى متصفا بإمارة الفضل والعلم




الخدمات العلمية