الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : الإيمان إفعال من الأمن ، ثم يقال : آمنه ، إذا صدقه ، وحقيقته [ ص: 23 ] آمنه من التكذيب والمخالفة ، وأما تعديته بالباء فلتضمنه معنى " أقر وأعترف " وأما ما حكى أبو زيد : ما آمنت أن أجد صحابة ، أي ما وثقت ، فحقيقته صرت ذا أمن ، أي ذا سكون وطمأنينة ، وكلا الوجهين حسن في ( يؤمنون بالغيب ) أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق . وأقول : اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع ، ويجمعهم فرق أربع .

                                                                                                                                                                                                                                            الفرقة الأولى : الذين قالوا : الإيمان اسم لأفعال القلوب والجوارح والإقرار باللسان ، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية ، وأهل الحديث ، أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلا عقليا أو نقليا من الكتاب والسنة ، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيرا كان أو كبيرا ، فقالوا : مجموع هذه الأشياء هو الإيمان ، وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر ، وأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد به التصديق ، ولذلك يقال : فلان آمن بالله وبرسوله ، ويكون المراد التصديق ، إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية ، فلا يقال : فلان آمن بكذا إذا صلى وصام ، بل يقال : فلان آمن بالله كما يقال : صام وصلى لله ، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة ، أما إذا ذكر مطلقا غير معدى فقد اتفقوا على أنه منقول من المسمى اللغوي الذي هو التصديق إلى معنى آخر ، ثم اختلفوا فيه على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة ، أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات ، وهو قول واصل بن عطاء وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار بن أحمد .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل ، وهو قول أبي علي وأبي هاشم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الإيمان عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد ، فالمؤمن عند الله كل من اجتنب كل الكبائر ، والمؤمن عندنا كل من اجتنب كل ما ورد فيه الوعيد ، وهو قول النظام ، ومن أصحابه من قال : شرط كونه مؤمنا عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها . وأما أهل الحديث فذكروا وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة ، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيمانا إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة . وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ، ثم كل معصية بعده كفر على حدة ، ولم يجعلوا شيئا من الطاعات إيمانا ما لم توجد المعرفة والإقرار ، ولا شيئا من المعاصي كفرا ما لم يوجد الجحود والإنكار ، لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله ، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها ، وهو إيمان واحد ، وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان ، ومن ترك شيئا من الفرائض فقد انتقص إيمانه ، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه ، ومنهم من قال : الإيمان اسم للفرائض دون النوافل .

                                                                                                                                                                                                                                            الفرقة الثانية : الذين قالوا : الإيمان بالقلب واللسان معا ، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب ، الأول : أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب ، وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء ، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين ، أحدهما : اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة ، فمنهم من فسرها بالاعتقاد الجازم سواء كان اعتقادا تقليديا أو كان علما صادرا عن الدليل وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم ، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال . وثانيهما : اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا ؟ قال بعض المتكلمين : هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال ، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله [ ص: 24 ] تعالى لا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف . وقال أهل الإنصاف : المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالما بالعلم أو عالما لذاته وبكونه مرئيا أو غيره لا يكون داخلا في مسمى الإيمان . القول الثاني : أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا ، وهو قول بشر بن عتاب المريسي ، وأبي الحسن الأشعري ، والمراد من التصديق بالقلب الكلام القائم بالنفس . القول الثالث : قول طائفة من الصوفية : الإيمان إقرار باللسان ، وإخلاص بالقلب .

                                                                                                                                                                                                                                            الفرقة الثالثة : الذين قالوا : الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط ، وهؤلاء قد اختلفوا على قولين : أحدهما : أن الإيمان عبارة عن معرفة الله بالقلب ، حتى أن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقر به فهو مؤمن كامل الإيمان ، وهو قول جهم بن صفوان . أما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حد الإيمان . وحكى الكعبي عنه : أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم . وثانيهما : أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب ، وهو قول الحسين بن الفضل البجلي .

                                                                                                                                                                                                                                            الفرقة الرابعة : الذين قالوا : الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، وهم فريقان : الأول : أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط ، لكن شرط كونه إيمانا حصول المعرفة في القلب ، فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيمانا ، لا أنها داخلة في مسمى الإيمان ، وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي ، وإن كان الكعبي قد أنكر كونه قولا لغيلان . الثاني : أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان ، وهو قول الكرامية ، وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة ، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة ، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع ، والذي نذهب إليه أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب ونفتقر ههنا إلى شرح ماهية التصديق بالقلب ، فنقول : إن من قال العالم محدث ، فليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفا بالحدوث ، بل مدلولها حكم ذلك القائل بكون العالم حادثا ، والحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث للعالم ، فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو بالانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص ، واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمرا واحدا يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات ، ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم والدال غير المدلول ، ثم نقول هذا الحكم الذهني غير العلم ، لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به ، فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم ، فالمراد من التصديق بالقلب هو هذا الحكم الذهني ، بقي ههنا بحث لفظي ، وهو أن المسمى بالتصديق في اللغة هو ذلك الحكم الذهني أم الصيغة الدالة على ذلك الحكم الذهني ، وتحقيق القول فيه قد ذكرناه في أصول الفقه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية