الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1417 1418 1419 1420 ص: فإن قال قائل: وأين جعل للمصلي أن يقول بعد التشهد ما أحب؟

                                                قيل له: في حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حدثنا بذلك أبو بكرة، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة ، عن سليمان ، عن شقيق ، عن عبد الله قال: "كنا نقول خلف رسول الله - عليه السلام - إذا جلسنا في الصلاة: السلام على الله وعلى عباده، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فقال رسول الله - عليه السلام -: إن الله -عز وجل- هو السلام، فلا تقولوا هكذا، ولكن قولوا ... " فذكر التشهد على ما ذكرناه في غير هذا الموضع عن ابن مسعود، قال: "ثم ليتخير أحدكم بعد ذلك أطيب الكلام أو ما أحب من الكلام".

                                                حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال: " كنا لا ندري ما نقول بين كل ركعتين غير أن [ ص: 280 ] نسبح ونكبر ونحمد ربنا -عز وجل-، وإن محمدا - عليه السلام - أوتي فواتح الكلم وجوامعه -أو قال: وخواتمه- فقال: إذا قعدتم في الركعتين فقولوا -فذكر التشهد- ثم يتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو به ربه -عز وجل-".

                                                حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا الفضيل بن عياض ، عن منصور بن المعتمر ، عن شقيق ، عن عبد الله ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله، غير أنه قال: "ثم ليختر من الكلام بعد ما شاء" فأبيح له ها هنا أن يختار من الدعاء ما أحب; لأن ما سواه من الصلاة بخلافه من ذلك ما ذكرنا من التكبير في مواضعه ومن التشهد في موضعه ومن الاستفتاح في موضعه، ومن التسليم في موضعه; فجعل ذلك ذكرا خاصا غير متعد إلى غيره، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك الذكر في الركوع والسجود ذكرا خاصا لا يتعدى إلى غيره، والله أعلم.

                                                التالي السابق


                                                ش: لما قال: فيما قبل هذا عن قريب; فقيل له: فيما روى ابن مسعود عن النبي - عليه السلام -: "ثم ليتخير من الدعاء ما أحب" بين ذلك ها هنا بتخريجه الحديث.

                                                فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

                                                الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني البصري ، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ، عن سليمان الأعمش ، عن شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي أدرك النبي - عليه السلام - ولم يره.

                                                وهؤلاء كلهم رجال الصحيحين ما خلا أبا بكرة .

                                                وأخرجه الجماعة، فقال البخاري : ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى ، عن الأعمش، حدثني شقيق ، عن عبد الله قال: "كنا إذا كنا مع النبي - عليه السلام - في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي - عليه السلام -: لا تقولوا: السلام على الله; فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين- [ ص: 281 ] فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء أو بين السماء والأرض- أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به".

                                                وقال مسلم : ثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم- قال إسحاق: أنا، وقال الآخران:- ثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال: "كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله - عليه السلام -: السلام على الله، السلام على فلان، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم: إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين -فإذا قالها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض- أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يتخير من المسألة ما شاء".

                                                وفي لفظ : "أو أحب".

                                                وقال أبو داود : نا مسدد، ثنا يحيى ... إلى آخره نحو رواية البخاري، غير أن فيه: "كنا إذا جلسنا مع رسول الله - عليه السلام - في الصلاة قلنا: السلام على الله قبل عباده". وزيادة لفظ: "صالح" بعد قوله: "كل عبد". والباقي مثله سواء.

                                                وقال الترمذي : ثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا عبيد الله الأشجعي ، عن سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود قال: "علمنا رسول الله - عليه السلام - إذا قعدنا في الركعتين أن نقول: التحيات لله والصلوات ... " إلى آخره، وليس في روايته: "ثم ليتخير أحدكم".

                                                وقال النسائي : أنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، عن الأشجعي ... إلى آخره نحو رواية الترمذي .

                                                [ ص: 282 ] وقال أيضا : أنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق يحدث، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال: "كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين غير أن نسبح ونكبر ونحمد ربنا، وإن محمدا - عليه السلام - علم فواتح الخير وخواتمه، فقال: إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله ... " إلى آخره "وليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فليدع الله -عز وجل-".

                                                وقال ابن ماجه : نا محمد بن عبد الله بن نمير، نا أبي، نا الأعمش ، عن شقيق بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود (ح)

                                                وثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي، نا يحيى بن سعيد، نا الأعمش ، عن شقيق ، عن عبد الله بن مسعود قال: "كنا إذا صلينا مع النبي - عليه السلام - قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل وميكائيل، وعلى فلان وفلان -يعنون الملائكة- فسمعنا رسول الله - عليه السلام - يقول ذلك، فقال: إن الله هو السلام، فإذا جلستم فقولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين- فإنه إذا قال ذلك أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض- أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله".

                                                الثاني: عن أبي بكرة أيضا، عن سعيد بن عامر الضبعي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، عن أبي الأحوص عوف بن مالك الكوفي ، عن عبد الله ... إلى آخره.

                                                وأخرج النسائي نحوه كما ذكرناه آنفا.

                                                الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي وشيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه ، عن أسد بن موسى ، عن الفضيل بن عياض الزاهد المشهور، عن منصور بن المعتمر ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود .

                                                [ ص: 283 ] وأخرجه الطبراني : ثنا عبدان بن أحمد، نا إسماعيل بن زكرياء الكوفي، ثنا فضيل بن عياض ، عن الأعمش ومنصور ، عن شقيق بن سلمة ، عن عبد الله ... الحديث.

                                                وأخرجه من وجوه كثيرة.

                                                قوله: "السلام على الله " مقول القول، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس، أي كل واحد واحد من أفراد السلام على الله وقد بين - عليه السلام - أن السلام اسم من أسماء الله تعالى ومعناه: السالم من النقائض وسمات الحدث، ومن الشريك والند، وقيل: بمعنى المسلم لأوليائه، وقيل: المسلم عليهم.

                                                قوله: "السلام على فلان وفلان" يعنون بهم الملائكة كما صرح به في رواية ابن ماجه .

                                                قوله: "على ما ذكرناه في غير هذا الموضع" أراد به: باب التشهد في الصلاة كيف هو على ما يجيء.

                                                قوله: "أو ما أحب من الكلام" شك من الراوي فلأجل هذا اللفظ أخرج هذا الحديث ها هنا، وإلا فموضعه باب التشهد على ما يجيء إن شاء الله تعالى، وهذا فيه دليل صريح على أن الدعاء بعد التشهد غير مؤقت، وذلك لأن الشارع خيره في ذلك، حتى ذهب الشافعي إلى أنه يجوز له أن يدعو بما شاء من أمور الدنيا والآخرة ما لم يكن إثما، وقال أصحابنا: لا يجوز إلا الدعوات المأثورة الواردة في القرآن أو السنة; لأن الدعاء من أمور الدنيا مثل قوله: اللهم زوجني فلانة، أو ارزقني ألف دينار من كلام الناس، وقد صح في الحديث أن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس، وسيجيء تحقيق الكلام في هذا الحديث في بابه إن شاء الله تعالى.

                                                [ ص: 284 ] قوله: "أوتي فواتح الكلم" الفواتح جمع فاتحة، وأراد بها ما يسر الله له من البلاغة والفصاحة والوصول إلى غوامض المعاني وبدائع الحكم ومحاسن العبارات والألفاظ التي لم تفتح على غيره وتعذرت، وهذا كما في قوله في الحديث الآخر: "أتيت مفاتيح -وفي رواية: مفاتح- الكلم" .

                                                قوله: "وجوامعه" جمع جامعة أي كلمة جامعة، وأراد بها القرآن الذي جمع الله بلطفه في الألفاظ اليسيرة معاني كثيرة.

                                                قوله: "وخواتمه" جمع خاتمة، وأراد بها ما يختم به الكلام على حسن الاختتام بعد انتهاء المقاصد، بأبلغ العبارات، وأكمل الإشارات، وأوضح الدلالات.

                                                قوله: "فأبيح له ها هنا" أي في التشهد في آخر الصلاة، والباقي ظاهر.




                                                الخدمات العلمية