الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ولاية يوسف بن تاشفين

لما ملك أبو بكر بن عمر سجلماسة استعمل عليها يوسف بن تاشفين اللمتوني ، وهو من بني عمه الأقربين ، ورجع إلى الصحراء ، فأحسن يوسف السيرة في الرعية ، ولم يأخذ منهم سوى الزكاة ، فأقام بالصحراء مدة ، ثم عاد أبو بكر بن عمر إلى سجلماسة ، فأقام بها سنة ، والخطبة والأمر والنهي له ، واستخلف عليها ابن أخيه أبا بكر بن إبراهيم بن عمر ، وجهز مع يوسف بن تاشفين جيشا من المرابطين إلى السوس ، ففتح على يديه .

وكان يوسف رجلا دينا ، خيرا ، حازما ، داهية ، مجربا ، وبقوا كذلك إلى سنة اثنتين وستين وأربعمائة ، وتوفي أبو بكر بن عمر بالصحراء ، فاجتمعت طوائف المرابطين على يوسف بن تاشفين ، وملكوه عليهم ، ولقبوه أمير المسلمين ، وكانت الدولة في بلاد المغرب لزناتة الذين ثاروا في أيام الفتن ، وهي دولة ردية مذمومة ، سيئة السيرة ، لا سياسة ولا ديانة ، ( وكان أمير المسلمين وطائفته على نهج السنة ، واتباع الشريعة ) ، فاستغاث به أهل المغرب ، فسار إليها وافتتحها حصنا حصنا ، وبلدا بلدا بأيسر سعي ، فأحبه الرعايا ، وصلحت أحوالهم .

ثم إنه قصد موضع مدينة مراكش ، وهو قاع صفصف ، لا عمارة فيه ، وهو موضع متوسط في بلاد المغرب كالقيروان في إفريقية ، ومراكش تحت جبال المصامدة الذين هم أشد أهل المغرب قوة ، وأمنعهم معقلا ، فاختط هناك مدينة مراكش ليقوى على قمع أهل تلك الجبال إن هموا بفتنة ، واتخذها مقرا ، فلم يتحرك أحد بفتنة ، وملك البلاد المتصلة بالمجاز مثل سبتة ، وطنجة ، وسلا ، وغيرها ، وكثرت عساكره .

وخرجت جماعة قبيلة لمتونة وغيرهم ، وضيقوا حينئذ لثامهم ، وكانوا قبل أن [ ص: 138 ] يملكوا يتلثمون في الصحراء من الحر والبرد كما يفعل العرب ، والغالب على ألوانهم السمرة ، فلما ملكوا البلاد ضيقوا اللثام .

وقيل : كان سبب اللثام لهم أن طائفة من لمتونة خرجوا مغيرين على عدو لهم ، فخالفهم العدو إلى بيوتهم ، ولم يكن بها إلا المشايخ والصبيان والنساء ، فلما تحقق المشايخ أنه العدو أمروا النساء أن يلبسن ثياب الرجال ، ويتلثمن ، ويضيقنه ، حتى لا يعرفن ، ويلبسن السلاح . ففعلن ذلك ، وتقدم المشايخ والصبيان أمامهن ، واستدار النساء بالبيوت ، فلما أشرف العدو رأى جمعا عظيما ، فظنه رجالا ، فقال : هؤلاء عند حرمهم يقاتلون عنهن قتال الموت ، والرأي أن نسوق النعم ونمضي ، فإن اتبعونا قاتلناهم خارجا عن حريمهم .

فبينما هم في جمع النعم من المراعي إذ قد أقبل رجال الحي ، فبقي العدو بينهم وبين النساء ، فقتلوا من العدو فأكثروا ، وكان من قتل النساء أكثر ، فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنة يلازمونه ، فلا يعرف الشيخ من الشاب ، فلا يزيلونه ليلا ولا نهارا ، ومما قيل في اللثام :

قوم لهم درك العلى في حمير وإن انتموا صنهاجة فهم هم     لما حووا إحراز كل فضيلة
غلب الحياء عليهم فتلثموا



ونذكر باقي أخبار أمير المسلمين في مواضعها إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية