الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا :

إنما سمي جنبا لأجل ما لزمه من اجتناب أفعال بينها الشرع. فالجنابة هي البعد والاجتناب، ومنه قوله تعالى: والجار الجنب يعني: البعيد منه نسبا، فصارت الجنابة في الشرع اسما للزوم اجتناب ما وصفناه من الأمور.

وأصله: التباعد عن الشيء، ثم ليس بتباعد عن كل شيء، وإنما هو تباعد من شيء دون شيء، مثل الصوم; في الأصل: عبارة عن الإمساك وليس الصوم في الشرع إمساكا عن كل شيء، إنما هو عن شيء دون [ ص: 46 ] شيء، وبيان ذلك إلى الشرع. ومطلق اللفظ ينصرف إلى ما استقر عرف الشرع عليه. واستنبط من أوجب المضمضة والاستنشاق من قوله تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا أنهما فرضان عليه، لأن قوله: فاطهروا عموم، وقرر الرازي هذا في أحكام القرآن، ثم وجه على نفسه سؤالا فقال:

إن قال قائل: من اغتسل ولم يتمضمض ولم يستنشق يسمى متطهرا، فقد فعل ما أوجبته الآية؟ فقال: إنما يكون مطهرا لبعض جسده، وعموم الآية يقتضي تطهير الجميع، فلا يكون بتطهير البعض فاعلا لموجب عموم اللفظ. ألا ترى أن قوله تعالى: فاقتلوا المشركين عموم في سائرهم، وإن كان الاسم يتناول ثلاثة منهم؟ فكذلك ما وصفناه. ولما لم يجز لأحد أن يقتصر من حكم آية قتال المشركين على ثلاثة منهم، لأن الاسم يتناولهم، إذ كان العموم شاملا للجميع، فكذلك قوله: فاطهروا عموم في سائر البدن، فلا يجوز الاقتصار على بعضه .

فهذا ما ذكره سؤالا، واستدلالا وانفصالا.. والذي ذكره باطل عندنا قطعا، فإن صيغ جموع الكثرة حقيقة في الاستغراق، فهي فيما دونه مجاز، لأن الوضع الأصلي فيها الاستغراق. فأما قوله: تطهر فلان، فليس حقيقة في قدر دون قدر، فإذا غسل أي موضع غسل من بدنه فقد تطهر، ولم يذكر الله تعالى موضع [ ص: 47 ] الطهارة أصلا، لا بلفظ يقتضي عموم البدن، ولا بلفظ يخالفه، وإنما قال: "فاطهروا"، وليس فيه ما يوجب عموما أو خصوصا، ولكنه لإبانة ما يسمى اطهارا، ولا يمكنه أن يقول: من غسل بدنه جميعه إلا داخل الفم والأنف، فلا يقال له: اطهر حقيقة، وما جاء به ليس باطهار حقيقة بل لفظ الاطهار في هذا القدر مجاز، كما أن الاستغراق فيما دونه مجاز وذلك يتبينه العاقل بأوائل النظر في مثل ذلك.

قال: إن المأمور خرج من موجب الأمر بما يسمى به متطهرا. وقال تعالى في موضع آخر: ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا يقتضي جوازها مع تركها ، لوقوع اسم المغتسل عليه، واسم المغتسل حقيقة في حق من لم يتمضمض، واسم المتطهر حقيقة في حق من لم يتمضمض فلا حاصل لقوله هذا، فاعلمه وثق به.

التالي السابق


الخدمات العلمية