الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الرابع والعشرون بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر وقاعدة ما لا يؤثر فيه ذلك من التصرفات ) وردت الأحاديث الصحيحة في نهيه عليه السلام عن بيع الغرر وعن بيع المجهول واختلف العلماء بعد ذلك فمنهم من عممه في التصرفات وهو الشافعي فمنع من الجهالة في الهبة والصدقة والإبراء والخلع [ ص: 151 ] والصلح وغير ذلك ومنهم من فصل وهو مالك بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو باب المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال وما يقصد به تحصيلها وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو ما لا يقصد لذلك وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام : طرفان وواسطة فالطرفان : أحدهما معاوضة صرفة فيجتنب فيها ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة كما تقدم أن الجهالات ثلاثة أقسام فكذلك الغرر والمشقة وثانيهما ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة والإبراء فإن هذه التصرفات لا يقصد بها تنمية المال بل إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه فإنه لم يبذل شيئا بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المال المبذول في مقابلته فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه أما الإحسان الصرف فلا ضرر فيه فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإحسان التوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعا وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله فإذا وهب له عبده الآبق جاز أن يجده فيحصل له ما ينتفع به ولا ضرر عليه إن لم يجده لأنه لم يبذل شيئا وهذا فقه جميل ثم إن الأحاديث لم يرد فيها ما يعم هذه الأقسام حتى نقول يلزم منه مخالفة نصوص صاحب الشرع بل إنما وردت في البيع ونحوه وأما الواسطة بين الطرفين فهو النكاح فهو من جهة أن المال فيه ليس مقصودا .

وإنما مقصده المودة والألفة والسكون يقتضي أن يجوز فيه الجهالة والغرر مطلقا ومن جهة أن صاحب الشرع اشترط فيه المال بقوله تعالى { أن تبتغوا بأموالكم } يقتضي امتناع الجهالة والغرر فيه فلو وجد الشبهين توسط مالك فجوز فيه الغرر القليل دون الكثير نحو عبد من غير تعيين وشورة بيت ولا يجوز على العبد الآبق والبعير الشارد لأن الأول يرجع فيه إلى الوسط المتعارف والثاني ليس له ضابط فامتنع وألحق الخلع بأحد الطرفين الأولين الذي لا يجوز فيه الغرر مطلقا لأن العصمة وإطلاقها ليس من باب ما يقصد للمعاوضة بل شأن الطلاق أن يكون بغير شيء فهو كالهبة فهذا هو الفرق بين القاعدتين والضابط للبابين والفقه مع مالك رحمه الله فيه .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 148 - 150 ] قال : ( الفرق الرابع والعشرون بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر وقاعدة ما لا يؤثر فيه ذلك من التصرفات ) قلت : ما قاله : في هذا الفرق صحيح ظاهر .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

[ ص: 170 ] الفرق الرابع والعشرون بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر وقاعدة ما لا يؤثر فيه ذلك من التصرفات ) قسم مالك رحمه الله تعالى التصرفات ثلاثة أقسام : أحدها معاوضة صرفة يقصد بها تنمية المال فاقتضت حكمة الشرع أن يجتنب فيها من الغرر والجهالة ما إذا فات المبيع به ضاع المال المبذول في مقابلته إلا ما دعت الضرورة إليه عادة وذلك أن الغرر والجهالة كما يؤخذ مما مر ثلاثة أقسام أحدها ما لا يحصل معه المعقود عليه أصلا والثاني ما يحصل معه ذلك دنيا ونزرا والثالث ما يحصل معه غالب المعقود عليه فيجتنب الأولان ويغتفر الثالث .

وقسم أبو الوليد الغرر إلى ثلاثة أقسام كثير وقليل ووسط وجعل الكثير عبارة عن القسمين الأولين في هذا التقسيم فقال في بداية المجتهد : الفقهاء متفقون على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز وأن القليل يجوز ويختلفون في أشياء من أنواع الغرر مثل ما إذا قال له : أبيعك أحد هذين الثوبين أو العبدين من صنف واحد وقد لزمه أحدهما أيهما اختار وافترقا قبل الخيار فلترددها بين الغرر القليل والكثير بعضهم كأبي حنيفة والشافعي في خصوص المسألة المذكورة يلحقها بالغرر الكثير فيمنع صحة البيع المذكور لأنهما افترقا على بيع غير معلوم وبعضهم كمالك في خصوص المسألة المذكورة أيضا يلحقها بالغرر القليل فيجيز البيع المذكور لأنه يجيز الخيار بعد عقد البيع في الأصناف المستوية لقلة الغرر عنده في ذلك فإذا قلنا بالجواز على مذهب مالك فقبض الثوبين المشتري على أن يختار فهلك أحدهما أو أصابه عيب مما يصيبه فقيل : تكون المصيبة بينهما وقيل بل يضمنه كله للمشتري إلا أن تقوم البينة على هلاكه وقيل يضمن فيما يغلب عليه كالثياب ولا يضمن فيما لا يغلب عليه كالعبد وأما أخذ الباقي فقيل : يلزم وقيل : لا يلزم ا هـ وقال قبل : والغرر يوجد في المبيعات من جهة الجهل والجهل على أوجه : الوجه الأول الجهل بتعيين المعقود عليه أو العقد والوجه الثاني الجهل بوصف الثمن والمثمون المبيع أو بقدره أو بأجله إن كان هنالك أجل والوجه الثالث الجهل بوجوده أو تعذر القدرة عليه وهذا راجع إلى تعذر التسليم والوجه الرابع الجهل بسلامته أعني بقاءه . ا هـ .

المراد بتغيير قلت : ولا شك أن الجهل من حيث هو إما كثير لا يغتفر وإما قليل يغتفر وإما متردد بينهما فيجري الخلاف في اغتفاره وعدمه القسم الثاني ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة والإبراء فاقتضت حكمة الشرع وحثه على [ ص: 171 ] الإحسان التوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعا وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله مع أنه إذا وهب له عبده الآبق ولم يجده لا ضرر عليه لأنه لم يبذل شيئا وألحق مالك بهذا القسم الخلع نظرا لكون العصمة وإطلاقها ليس من باب ما يقصد بالمعاوضة بل شأن الطلاق أن يكون بغير شيء كالهبة القسم الثالث ما لم يكن معاوضة صرفة ولا إحسانا صرفا كالنكاح فهو من جهة أن المال فيه ليس مقصودا وإنما المقصود منه المودة والألفة والسكون يقتضي أن يجوز فيه الجهالة والغرر مطلقا ومن جهة أن صاحب الشرع اشترط فيه المال بقوله تعالى { أن تبتغوا بأموالكم } يقتضي امتناع الجهالة والغرر فيه فلوجود الشبهين فيه توسط مالك فجوز فيه الغرر القليل نحو عبد من غير تعيين وشورة بيت لأنه يرجع فيه للوسط المتعارف ولم يجز فيه الغرر الكثير نحو العبد الآبق والبعير الشارد لأنه لا ضابط له وعمم الشافعي المنع من الجهالة في جميع التصرفات .

ولو كانت إحسانا صرفا كالهبة والصدقة والإبراء والخلع والصلح إلا أن الأحاديث الصحيحة في نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر وعن بيع المجهول لما لم يرد فيها ما يعم هذه الأقسام حتى نقول يلزم من مذهب مالك مخالفة نصوص صاحب الشرع بخلاف مذهب الشافعي بل إنما وردت في البيع ونحوه كان ما ذهب إليه مالك رحمه الله تعالى فقها جميلا بخلاف ما ذهب إليه الشافعي قلت : والظاهر أن المراد بالغرر القليل المغتفر في النكاح هو ما لا يغتفر في نحو البيع وهو ما يحصل معه المعقود عليه دينا نذر إلا ما يغتفر فيه أيضا وهو ما يحصل معه غالب المعقود عليه فافهم والله أعلم .




الخدمات العلمية