الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1223 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له : " . متفق عليه .

وفي رواية لمسلم : " ثم يبسط يديه ويقول من يقرض غير عدوم ولا ظلوم ؟ حتى ينفجر الفجر " .

التالي السابق


1223 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينزل ربنا " ) ، أي : أمره لبعض ملائكته أو ينزل مناديه ( " تبارك " ) : كثر خيره ورحمته وآثار جماله ( " وتعالى " ) : عن صفات المخلوقين من الطلوع والنزول ، وارتفع عن سمات الحدوث بكبريائه وعظمته وجلاله ، قيل : إنهما جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه للتنبيه على التنزيه ، لئلا يتوهم أن المراد بالإسناد ما هو حقيقته ، ( " كل ليلة إلى السماء الدنيا " ) : قال ابن حجر ، أي ينزل أمره ورحمته أو ملائكته ، وهذا تأويل الإمام مالك وغيره ويدل له الحديث الصحيح " إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل ، ثم يأمر مناديا ينادي فيقول : هل من داع فيستجاب له ؟ " الحديث ، والتأويل الثاني ، ونسب إلى مالك أيضا ، أنه على سبيل الاستعارة ، ومعناه الإقبال على الداعي بالإجابة واللطف والرحمة وقبول المعذرة ، كما هو عادة الكرماء ، لا سيما الملوك إذا نزلوا بقرب محتاجين ملهوفين مستضعفين .

قال النووي في شرح مسلم : في هذا الحديث وشبهه من أحاديث الصفات وآياتها مذهبان مشهوران . فمذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين الإيمان بحقيقتها على ما يليق به تعالى ، وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ، ولا نتكلم في تأويلها مع اعتقادنا تنزيه الله سبحانه عن سائر سمات الحدوث . والثاني : مذهب أكثر المتكلمين وجماعة من السلف ، وهو محكي عن مالك والأوزاعي إنما تتأول على ما يليق بها بحسب بواطنها ، فعليه : الخبر مئول بتأويلين ، أي المذكورين ، وبكلامه وبكلام الشيخ الرباني أبي إسحاق الشيرازي ، وإمام الحرمين ، [ ص: 924 ] والغزالي وغيرهم من أئمتنا وغيرهم يعلم أن المذهبين متفقان على صرف تلك الظواهر ، كالمجيء ، والصورة ، والشخص ، والرجل ، والقدم ، واليد ، والوجه ، والغضب ، والرحمة ، والاستواء على العرش ، والكون في السماء ، وغير ذلك مما يفهمه ظاهرها لما يلزم عليه من مجالات قطعية البطلان تستلزم أشياء يحكم بكفرها بالإجماع ، فاضطر ذلك جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ عن ظاهره ، وإنما اختلفوا هل نصرفه عن ظاهره معتقدين اتصافه سبحانه بما يليق بجلاله وعظمته من غير أن نئوله بشيء آخر ، وهو مذهب أكثر أهل السلف ، وفيه تأويل إجمالي أو مع تأويله بشيء آخر ، وهو مذهب أكثر أهل الخلف وهو تأويل تفصيلي ، ولم يريدوا بذلك مخالفة السلف الصالح ، معاذ الله أن يظن بهم ذلك ، وإنما دعت الضرورة في أزمنتهم لذلك ; لكثرة المجسمة والجهمية وغيرها من فرق الضلالة ، واستيلائهم على عقول العامة ، فقصدوا بذلك ردعهم وبطلان قولهم ، ومن ثم اعتذر كثير منهم وقالوا : لو كنا على ما كان عليه السلف الصالح من صفاء العقائد وعدم المبطلين في زمنهم لم نخض في تأويل شيء من ذلك ، وقد علمت أنمالكا والأوزاعي ، وهما من كبار السلف أولا الحديث تأويلا تفصيليا ، وكذلك سفيان الثوري أول الاستواء على العرش بقصد أمره ، ونظيره ثم استوى إلى السماء ، أي : قصد إليها ، ومنهم الإمام جعفر الصادق ، بل قال جمع منهم ومن الخلف : إن معتقد الجهة كافر ، كما صرح به العراقي ، وقال : إنه قول لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني . وقد اتفق سائر الفرق على تأويل نحو : ( وهو معكم أين ما كنتم ) ، ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) الآية ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) و ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) ، و " قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن " ، " والحجر الأسود يمين الله في الأرض " وهذا الاتفاق يبين لك صحة ما اختاره المحققون أن الوقف على ( الراسخين في العلم ) لا الجلالة .

قلت : الجمهور على أن الوقف على ( إلا الله ) وعد ، وأوقفه وقفا لازما ، وهو الظاهر ; لأن المراد بالتأويل معناه الذي أراده تعالى وهو في الحقيقة لا يعلمه إلا الله جل جلاله ولا إله غيره ، وكل من تكلم فيه تكلم بحسب ما ظهر له ، ولم يقدر أحد أن يقول : إن هذا التأويل هو مراد الله جزما ، ففي التحقيق الخلاف لفظي ، ولهذا اختار كثيرون من محققي المتأخرين عدم تعيين التأويل في شيء معين من الأشياء التي تليق باللفظ ، ويكلون تعيين المراد بها إلى علمه تعالى ، وهذا توسط بين المذهبين وتلذذ بين المشربين ، واختار ابن دقيق العيد توسطا آخر ، فقال : إن كان التأويل من المجاز البين الشائع ، فالحق سلوكه من غير توقف أو من المجاز البعيد الشاذ فالحق تركه ، وإن استوى الأمران فالاختلاف في جوازه وعدمه مسألة فقهية اجتهادية ، والأمر فيها ليس بالخطر بالنسبة للفريقين .

قلت : التوقف فيها لعدم ترجيح أحد الجانبين ، مع أن التوقف مؤيد بقول السلف ، ومنهم الإمام الأعظم ، والله أعلم .

وقال القاضي : المراد بنزوله : دنو رحمته ومزيد لطفه على العباد ، وإجابة دعوتهم ، وقبول معذرتهم ، كما هو ديدن الملوك الكرماء والسادة الرحماء إذا نزلوا بقرب قوم ملهوفين محتاجين مستضعفين ، وقد روي : يهبط من السماء العليا إلى السماء الدنيا ، أي : ينتقل من مقتضى صفات الجلال التي تقتضي الأنفة من الأرذال ، وعدم المبالاة ، وقهر العداة ، والانتقام من العصاة إلى مقتضى صفات الجمال المقتضية للرأفة والرحمة وقبول المعذرة والتلطف بالمحتاج ، واستقراض الحوائج ، والمساهلة ، والتخفيف في الأوامر والنواهي ، والإغضاء عما يبدو من المعاصي ، ولهذا قيل : هذا تجل صوري لا نزول حقيقي ، فارتفع الإشكال ، والله أعلم بالحال . ( " حين يبقى ثلث الليل " ) : بضم لام ثلث وسكونه ( " الآخر " ) : بالرفع صفة ثلث .

قال ابن الملك : قيل هذا الحديث متشابه ، وقيل : معناه فينتقل كل ليلة من صفات الجلال إلى صفات الرحمة والجمال ، قلت : التعبير بالانتقال لا يرتضيه أهل الكمال لتوهم النقص والزوال ، وكأنه أراد به الظهور والتجلي بصفة الجمال .

[ ص: 925 ] قال في النهاية : تخصيص الثلث الآخر ; لأنه وقت التهجد ، وغفلة الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله تعالى ، وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة وافرة ، وقال ابن الملك : وقيل المراد نزول الرحمة الرحمانية ، والألطاف السبحانية ، وقربه من العباد بمقتضى الصفة الربوبية ، أو نزول ملك من خواص ملائكته ، فينقل حكاية كلام الرب في ذلك الوقت بالله تعالى ، وهذه الرواية لا تنافي ما ورد : حتى يمضي ثلث الليل الأول ، وفي رواية : إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ; لأنه يحتمل أن يكون النزول في بعض الليالي هكذا ، وفي بعضها هكذا - كذا قاله ابن حبان - وقال ابن حجر : ويحتمل أن يتكرر النزول عند الثلث الأول والنصف والثلث الآخر ، واختص بزيادة الفضل لحثه على الاستغفار بالأسحار ، ولاتفاق الصحيحين على روايته . اهـ .

والأظهر أن هذا نزول تجل فلا يختص بزمان دون زمان ، وإنما ذكر هذه الأوقات بحسب أزمنة القائمين عن نوم الغفلة ، ومجمله : أن مطلق الليل محل التنزل الإلهي من مقام الجلال إلى مرتبة الجمال ، داعيا عباده الذين هم أرباب الكمال إلى منصة الوصال حال غفلة عامة الخلق عن تلك الحال . ( " يقول من يدعوني فأستجيب له " ) : بالنصب على تقدير ( أن ) في جواب الاستفهام ، وبالرفع على الاستئناف ، وكذا قوله : فأعطيه ، فأغفر له ، قاله العسقلاني . ( " من سألني فأعطيه " ) : بفتح الياء وضم الهاء على الأكثر ، وبسكون الياء وكسر الهاء ( " من يستغفرني فأغفر له " ) : قيل : مقصود الحديث الترغيب والتحثيث وتخصيص هذا الوقت بمزيد الشرف والفضل ، وأن ما يأتي به المكلف أنفع وأرجى وبالقبول أحرى . ( متفق عليه ) : قال ميرك : ورواه الأربعة .

( وفي رواية لمسلم : " ثم يبسط يديه " ) ، أي : لطفه ورحمته ، قاله ابن الملك ، أي : عن مظهريهما ، ويحتمل أن يكون بالتجلي الصوري لتنزه ذاته عن الجارحة والنزول الحسي . ( " يقول " ) : وفي نسخة : ويقول ، أي بذاته أو على لسان ملك من خواص ملائكته ( " من يقرض " ) ، أي : يعطي العبادة البدنية أو المالية على سبيل القرض وأخذ العوض ، ( " غير عدوم " ) ، أي : ربا غنيا غير فقير عاجز عن العطاء ، ( " ولا ظلوم " ) : بعدم الوفاء أو بنقص من الثواب والجزاء يعني : من يعمل في العاجلة رجاء الثواب في الآجلة لغني لا يعجز عن أداء حقه ، وعادل لا يظلم المقرض بنقص ما أخذ ، بل يضاعف له أضعافا كثيرة ، وإنما وصف ذاته تعالى بنفي هذين الوصفين ; لأنهما المانعان غالبا عن الإقراض ، فالمعنى من يعمل خيرا في الدنيا يجد جزاءه كاملا عندي في العقبى ، ( " حتى " ) : غاية للبسط والقول ، أي : لا يزال يقول ذلك طلبا لإقبال قلوب طالبيه إليه ، ( " ينفجر الفجر " ) ، أي : ينشق أو يطلع ، ويظهر الصبح ، وفيه دلالة على امتداد وقت ذلك اللطف .




الخدمات العلمية