الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقال: فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم وقوله: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين وقوله جل وعز: لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم وقال ابن عباس: مهراقا. وقال: فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وضع هذه الترجمة في المضطر إلى أكل الميتة، ولم يذكر فيها حديثا أصلا، فقيل: لأنه لم يظفر فيه بشيء على مقتضى شرطه، واكتفى بسوق الآيات المذكورة، فإن فيها بيانا لأحوال المضطر، وقيل: لأنه بيض موضعا للحديث ليكتبه عند الظفر به، فلم يدركه، فانضم بعض تلك الآيات إلى بعض عند نسخ الكتاب.

                                                                                                                                                                                  قلت: روى الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا حسان، عن عطية، عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تجتفئوا بقلا، فشأنكم بها قال ابن كثير : تفرد بها أحمد من هذا الوجه، وهو إسناد صحيح على شرط الشيخين.

                                                                                                                                                                                  وروى ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، أخبرنا ابن علية، عن ابن عون قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة فقرأته عليه، وكان فيه: يجزئ من الاضطرار صبوح أو غبوق.

                                                                                                                                                                                  وروى أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، أنبأنا الفضل بن دكين، أخبرنا وهب بن عقبة بن وهيب العامري، سمعت أبي، يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: ما يحل لنا من الميتة؟ قال: ما طعامكم؟ قلنا: نغتبق ونصطبح - قال أبو نعيم: فسره لي عقبة: قدح غدوة وقدح عشية - قال: ذاك، وأبى الجوع وأحل لهم الميتة على هذا الحال. قال ابن كثير: تفرد به أبو داود، وكأنهم كانوا يغتبقون ويصطبحون شيئا لا يكفيهم، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق.

                                                                                                                                                                                  قلت: المخمصة ضمور البطن من الجوع.

                                                                                                                                                                                  قوله: (إذا لم تصطبحوا) يعني به الغداة (ولم تغتبقوا) يعني به العشاء.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ولم [ ص: 143 ] تجتفئوا بقلا) أي لم تقلعوه وترموا به، من جفأت القدر إذا رمت ما يجتمع على رأسها من الزبد والوسخ، ومادته جيم وفاء وهمزة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فشأنكم بها) أي بالميتة، أي استمتعوا بها غير مضيق عليكم، والشأن في الأصل الخطب والحال والأمر، وانتصابه بإضمار فعل.

                                                                                                                                                                                  قوله: (صبوح أو غبوق) أريد بالصبوح الغداة وبالغبوق العشاء.

                                                                                                                                                                                  قوله: (عن الفجيع العامري) بالفاء والجيم والعين المهملة، قال أبو عمر: الفجيع ابن عبد الله بن جندح العامري من بني عامر بن صعصعة، سكن الكوفة، روى عنه وهب بن عقبة البكالي.

                                                                                                                                                                                  قوله: لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات إلى قوله: فلا إثم عليه آيتان من سورة البقرة، استدل البخاري بذكر هذه الآيات المذكورة في أكل المضطر الذي وضعه ترجمة، فلذلك قال: لقوله تعالى، بلام التعليل، وتمام الآيتين: إن الله غفور رحيم ولم يذكر في رواية أبي ذر إلا إلى قوله: فلا إثم عليه وفي رواية كريمة ذكر آخر الآية، وهو قوله إن الله غفور رحيم

                                                                                                                                                                                  قوله من طيبات أي: من حلالات ما رزقناكم.

                                                                                                                                                                                  قوله: إن كنتم إياه تعبدون أي: توحدون، يعني: إن كنتم مؤمنين بالله فاشكروا له، فإن الإيمان يوجب ذلك وهو من شرائطه، وهو مشهور في كلامهم، يقول الرجل لصاحبه الذي قد عرف أنه يحبه: إن كنت محبا لي فافعل كذا، فيدخل حرف الشرط في كلامه تحريكا له على ما يأمره به وإعلاما له بأن ذلك من شرائط المحبة، وقيل: إن كنتم عازمين على الثبات فاشكروا له، فإن ترككم الشكر يخرجكم عنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: إنما حرم عليكم الميتة ذكر هنا أربعة أشياء، ولم يذكر سائر المحرمات; لأنهم كانوا يستحلون هذه الأشياء، فبين الله عز وجل أنه حرمها، ثم أباح التناول منها عند الضرورة وعند فقد غيرها من الأطعمة، فقال: فمن اضطر غير باغ ولا عاد أي: في غير بغي ولا عدوان، وهو مجاوزة الحد فلا إثم عليه في أكل ذلك إن الله غفور رحيم

                                                                                                                                                                                  قال مجاهد: فمن اضطر غير باغ ولا عاد قاطعا للسبيل أو مفارقا للأئمة أو خارجا في معصية الله، فلا رخصة له، وإن اضطر إليه. وكذا روي عن سعيد بن جبير، وقيل: غير باغ في أكلها ولا متعد فيه من غير ضرورة، وقيل: غير مستحل لها ولا عاد متزود منها، وقيل: غير باغ في أكلها شهوة وتلذذا "ولا عاد" ولا يأكل حتى يشبع، ولكن يأكل ما يمسك رمقه، وقيل: عاد أي عائد، فهو من المقلوب كشاكي السلاح أصله شائك، ومعنى الإثم هو أن يأكل منها فوق الشبع.

                                                                                                                                                                                  واختلف في الشبع وسد الرمق والتزود، فقال مالك: أحسن ما سمعت في المضطر أنه يشبع ويتزود، فإذا وجد غنى عنها طرحها. وهو قول الزهري، وربيعة، وقال أبو حنيفة والشافعي في قول: لا يأكل منها إلا مقدار ما يمسك الرمق والنفس، وحكى الداودي قولا: إنه يأكل منها ثلاث لقم، وقيل: إن تغدى لا يتعشى، وإن تعشى لا يتغدى.

                                                                                                                                                                                  قوله: فمن اضطر في مخمصة الآية في سورة المائدة، وقبله اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم

                                                                                                                                                                                  قوله غير متجانف أي غير منحرف إليه كقوله غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم لا يؤاخذ بذلك.

                                                                                                                                                                                  قوله: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إلى قوله: هو أعلم بالمعتدين في سورة الأنعام.

                                                                                                                                                                                  قوله فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إباحة من الله لعباده المؤمنين أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر اسم الله عليه، مفهومه أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه، ثم ندب إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه، فقال: وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم أي بين لكم ما حرم عليكم ووضحه بقوله: إلا ما اضطررتم إليه أي: إلا في حال الاضطرار، فإنه يباح لكم ما وجدتم، ثم بين جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من استحلالهم الميتات، فقال: وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين باعتدائهم وكذبهم وافترائهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلى قوله: فإن ربك غفور رحيم في سورة الأنعام، أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله.

                                                                                                                                                                                  قوله: على طاعم يطعمه أي على آكل يأكله.

                                                                                                                                                                                  قوله: أو دما مسفوحا قال العوفي، عن ابن عباس: يعني مهراقا، وليس في بعض النسخ هذا.

                                                                                                                                                                                  قوله: فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا كذا ثبت هنا لكريمة والأصيلي، وسقط للباقين، وتمامه: واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون وهي في سورة المائدة.

                                                                                                                                                                                  قوله: واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون هذا في سورة النحل، وأوله: فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله وقوله: إنما حرم عليكم الميتة إلى آخره بعد قوله: واشكروا نعمت الله وهي في سورة النحل قد ذكرنا فيما قبل هذه الآية بعينها في سورة [ ص: 144 ] البقرة، ويظهر أنها هنا تكرار لا فائدة في إعادتها، وليس كذلك; لأن كلا منهما في سورة، ولهذا توجدان في كثير من النسخ، والله سبحانه وتعالى أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية