الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  5257 باب الخمر من العنب

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قوله (الخمر من العنب) يحتمل وجهين من حيث الإعراب: أحدهما: أن يكون لفظ باب مضافا إلى الخمر، فالتقدير هذا باب في بيان الخمر من العنب، أي الخمر الكائنة من العنب، وهذا لا ينافي أن يكون خمر من غير العنب، والآخر: أن يكون الخمر مرفوعا بالابتداء، ومن العنب خبره، وهذا صورته صورة الحصر، وهو يمشي على مذهب أبي حنيفة، فإن مذهبه الخمر هي ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، والخمر من غير العنب لا يسمى خمرا حقيقة، وعلى مذهب غيره لا يراد منه الحصر، وإن كانت صورته صورة الحصر كما في قوله عليه السلام: "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فإن ظاهره يقتضي أن ينحصر الخمر على هاتين الشجرتين; لأن قوله (الخمر) اسم للجنس، فاستوعب بذلك جميع ما يسمى خمرا، فانتفى بذلك أن يكون الخارج منهما أن يسمى باسم الخمر مع أنه ورد في حديث ابن عمر: "نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل" على ما يجيء عن قريب، فإن كان الأمر كذلك يؤول الحديث، وقد أولوه بتأويلات:

                                                                                                                                                                                  الأول: أن يكون المراد من قوله (من هاتين الشجرتين) إحداهما كما في قوله عز وجل: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم والرسل من الإنس لا من الجن، وقوله عز وجل: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من أحدهما، فيكون المقصود من قوله (الخمر) هي الكائنة من العنب لا من النخلة، وكذلك الكلام في حديث ابن عمر المذكور.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن يكون عنى به الشجرتين جميعا، ويكون ما خمر من ثمرهما خمرا.

                                                                                                                                                                                  الثالث: أن يكون المراد كون الخمر من هاتين الشجرتين، وإن كانت مختلفة، ولكن المراد من العنب هو الذي يفهم منه الخمر حقيقة، ولهذا يسمى خمرا، سواء كان قليلا أو كثيرا، أسكر أو لم يسكر، أو يكون المراد من التمر ما يكون مسكرا، فلا يكون غير المسكر منه داخلا فيه، وكذا الكلام في كل ما جاء من إطلاق الخمر على غير العنب.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: كل ما أسكر يطلق عليه أنه خمر، ألا ترى حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".

                                                                                                                                                                                  قلت: المعنى في هذا الخبر وفيما جاء مثله من الأخبار أنه يسمى خمرا حالة وجود السكر دون غيره بخلاف ماء العنب المشتد فإنه خمر، سواء أسكر أو لم يسكر، والدليل قوله عليه السلام: "الخمر ما خامر العقل" على ما يجيء عن قريب، فإنه إنما يسمى خمرا عند مخامرته العقل بخلاف ماء العنب المشتد، وهذا هو التحقيق في هذا المقام، فإني ما رأيت أحدا من الشراح حرر هذا الموضع، بل أكثرهم غضوا عنه عيونهم غير أني رأيت في شرح ابن بطال: كذا ذكر "باب الخمر من العنب وغيره" فإن صح هذا من البخاري فلا يحتاج إلى كلام أصلا، وإلا فالمخلص فيه ما ذكرناه مما فتح لنا من الفيض الإلهي، فله الشكر والمنة.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية