الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء

            بسم الله الرحمن الرحيم

            أما بعد أحمد الله غافر الزلات ، ومقيل العثرات ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الذي أنزل عليه في كتابه العزيز : ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) ، وعلى آله وصحبه النجوم النيرات ، فهذا جزء سميته : " تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء " والسبب في تأليفه أنه وقع أن رجلا خاصم رجلا فوقع بينهما سب كثير ، فقذف أحدهما عرض الآخر ، فنسبه الآخر إلى رعي المعزى ، فقال له ذاك : تنسبني إلى رعي المعزى ؟ فقال له والد القائل : الأنبياء رعوا المعزى ، أو ما من نبي إلا رعى المعزى ، وذلك بسوق الغزل ، بجوار الجامع الطولوني ، بحضرة جمع كثير من العوام ، فترافعوا إلى الحكام ، فبلغ الخبر قاضي القضاة المالكي ، فقال : لو رفع إلي ضربته بالسياط ، فسئلت ماذا يلزم الذي ذكر الأنبياء مستدلا بهم في هذا المقام ؟ فأجبت : بأن هذا المستدل يعزر التعزير البليغ ؛ لأن مقام الأنبياء أجل من أن [ ص: 273 ] يضرب مثلا لآحاد الناس ولم أكن عرفت من هو القائل ذلك ، فبلغني بعد ذلك أنه الشيخ شمس الدين الحمصاني إمام الجامع الطولوني ، وشيخ القراء ، وهو رجل صالح في اعتقاده ، فقلت : مثل هذا الرجل تقال عثرته ، وتغفر زلته ، ولا يعزر لهفوة صدرت منه .

            وكتبت ثانيا بذلك ، فبلغني أن رجلا استنكر مني هذا الكلام ، وقال : إن هذا القائل لا ينسب إليه في ذلك عثرة ولا ملام ، وإن ذلك من المباح المطلق لا ذنب فيه ولا آثام ، واستفتى على ذلك من لم تبلغه واقعة الحال فخرجوه على ما ذكره القاضي عياض في مذاكرة العلم ؛ لأجل ذكر لفظ الاستدلال في الجواب والسؤال ، فخشيت أن تشرب قلوب العوام هذا الكلام ، فيكثروا من استعماله في المجادلات والخصام ، ويتصرفوا فيه بأنواع من عباراتهم الفاسدة ؛ فيؤديهم إلى أن يمرقوا من دين الإسلام ، فوضعت هذه الكراسة ؛ نصحا للدين وإرشادا للمسلمين والسلام .

            ولنبدأ بالفصل الذي ذكره القاضي عياض في الشفا في تقرير ذلك ، فإنه جمع فيه فأوعى ، وحرر فاستوفى ، قال : فصل الوجه الخامس : أن لا يقصد نقصا ، ولا يذكر عيبا ولا سبا ، ولكنه ينزع بذكر بعض أوصافه ، أو يستشهد ببعض أحواله عليه الصلاة والسلام الجائزة عليه في الدين ، على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره أو على التشبه به ، أو عند هضيمة نالته ، أو غضاضة لحقته ، ليس على طريق التأسي وطريق التحقيق ، بل على قصد الترفيع لنفسه أو غيره ، أو سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيه عليه الصلاة والسلام ، أو قصد الهزل والتنذير بقوله كقول القائل : إن قيل في السوء فقد قيل في النبي ، وإن كذبت فقد كذب الأنبياء ، أو إن أذنبت فقد أذنبوا ، وأنا أسلم من ألسنة الناس ولم يسلم منهم أنبياء الله ورسله ، أو قد صبرت كما صبر أولو العزم ، أو كصبر أيوب ، أو قد صبر نبي الله على عداه ، وحلم على أكثر مما صبرت ، وكقول المتنبي :

            أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود

            ونحوه من أشعار المتعجرفين في القول المتساهلين في الكلام ، كقول المعري :

            كنت موسى وافته بنت شعيب     غير أن ليس فيكما من فقير

            .

            على أن آخر البيت شديد ، وداخل في باب الإزراء والتحقير بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وتفضيل حال غيره عليه ، وكذلك قوله :

            لولا انقطاع الوحي بعد محمد     قلنا محمد من أبيه بديل
            [ ص: 274 ] هو مثله في الفضل إلا أنه     لم يأته برسالة جبريل

            .

            فصدر البيت الثاني من هذا الفصل شديد ؛ لتشبيهه غير النبي صلى الله عليه وسلم في فضله بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والعجز محتمل لوجهين : أحدهما أن هذه الفضيلة نقصت الممدوح ، والآخر : استغناؤه عنها ، وهذه أشد ، ونحو منه قول الآخر :

            وإذا ما رفعت راياته     صفقت بين جناحي جبرئيل

            .

            وقول الآخر من أهل العصر :

            فر من الخلد واستجار بنا     فصبر الله قلب رضوان

            .

            وكقول حسان المصيصي - من شعراء الأندلس - في محمد بن عباد المعروف بالمعتمد ، ووزيره أبي بكر بن زيدون :

            كأن أبا بكر أبو بكر الرضا     وحسان حسان وأنت محمد

            .

            إلى أمثال هذا ، وإنما كثرنا بشاهدها مع استثقالنا حكايتها ؛ لتعريف أمثلتها ولتساهل كثير من الناس في ولوج هذا الباب الضنك ، واستخفافهم فادح هذا العبء ، وقلة علمهم بعظيم ما فيه من الوزر ، وكلامهم فيه بما ليس لهم به علم - ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم - لا سيما الشعراء ، وأشدهم فيه تصريحا وللسانه تسريحا ابن هانئ الأندلسي ، وابن سليمان المعري ، بل قد خرج كثير من كلامهما عن هذا إلى حد الاستخفاف والنقص وصريح الكفر وقد أجبنا عنه .

            وغرضنا الآن الكلام في هذا الفصل الذي سقنا أمثلته ، فإن هذه كلها وإن لم تتضمن سبا ، ولا أضافت إلى الملائكة والأنبياء نقصا ولست أعني عجزي بيتي المعري ، ولا قصد قائلها إزراء وغضا ، فما وقر النبوة ، ولا عظم الرسالة ، ولا عزز حرمة الاصطفاء ، ولا عزز حظوة الكرامة ، حتى شبه من شبه في كرامة نالها أو معرة قصد الانتفاء منها ، أو ضرب مثل لتطييب مجلسه ، أو إغلاء في وصف لتحسين كلامه بمن عظم الله خطره وشرف قدره ، وألزم توقيره وبره ، ونهى عن جهر القول له ، ورفع الصوت عنده ، فحق هذا إن درئ عنه القتل الأدب والسجن ، وقوة تعزيره بحسب شنعة مقاله ، ومقتضى قبح ما نطق به ومألوف عادته لمثله أو ندوره ، أو قرينة كلامه ، أو ندمه على ما سبق منه ، ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء به ، وقد أنكر الرشيد على أبي نواس قوله : [ ص: 275 ]

            فإن يك باقي سحر فرعون فيكم     فإن عصا موسى بكف خصيب

            .

            وقال له : يا ابن اللخناء ، أنت المستهزئ بعصا موسى ، وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته - إلى أن قال : فالحكم في أمثال هذا ما بسطناه من طريق الفتيا . على هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا مالك بن أنس رحمه الله ، وأصحابه ، ففي النوادر من رواية ابن أبي مريم في رجل عير رجلا بالفقر ، فقال : تعيرني بالفقر ، وقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم ، فقال مالك : قد عرض بذكر النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضعه ، أرى أن يؤدب ، قال : ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا : قد أخطأت الأنبياء قبلنا .

            وقال عمر بن عبد العزيز لرجل : انظر لنا كاتبا يكون أبوه عربيا ، فقال كاتب له : قد كان أبو النبي كافرا ، فقال : جعلت هذا مثلا ، فعزله ، وقال : لا تكتب لي أبدا .

            وقد كره سحنون أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند التعجب إلا على طريق الثواب والاحتساب ؛ توقيرا له ، وتعظيما كما أمرنا الله ، وقال القابسي عن رجل قال لرجل قبيح : كأنه وجه نكير ، ولرجل عبوس كأنه وجه مالك الغضبان ، وفي الأدب بالسوط والسجن نكال للسفهاء ، وإن قصد ذم الملك قتل ، وقال أيضا في شاب معروف بالخير قال لرجل شيئا ، فقال له الرجل : اسكت ؛ فإنك أمي ، فقال الشاب : أليس كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا ؟ فشنع عليه مقاله وكفره الناس ، وأشفق الشاب مما قال وأظهر الندم عليه ، فقال أبو الحسن : أما إطلاق الكفر عليه فخطأ ، لكنه مخطئ في استشهاده بصفة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكون النبي أميا آية له ، وكون هذا أميا نقيصة [ فيه ] وجهالة ، ومن جهالته احتجاجه بصفة النبي صلى الله عليه وسلم ، لكنه إذا استغفر وتاب واعترف ولجأ إلى الله فيترك ؛ لأن قوله لا ينتهي إلى حد القتل ، وما طريقة الأدب فطوع فاعله بالندم عليه يوجب الكف عنه .

            ونزلت أيضا مسألة استفتى فيها بعض قضاة الأندلس شيخنا القاضي أبا محمد بن منصور - رحمه الله - في رجل تنقصه آخر بشيء ، فقال له : إنما تريد نقصي بقولك وأنا بشر وجميع البشر يلحقهم النقص ، حتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأفتاه بإطالة سجنه ، وإيجاع أدبه إذ لم يقصد السب ، وكان بعض الفقهاء بالأندلس أفتى بقتله - هذا كله كلام القاضي عياض في الشفا - ويفطن لقوله في أول الفصل على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره ، كيف سوى في الحكم بين ضارب المثل والمحتج ؟ والمحتج : هو المستدل ، ومراده المستدل في الخصومات والتبري من المعرات ، وكذلك قوله : ينزع بذكر بعض أوصافه ، أو يستشهد ببعض أحواله ، فإن الاستشهاد بمعنى الاستدلال ، وكذلك قوله في آخر الفصل : لكنه مخطئ في استشهاده بصفة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : ومن جهالته احتجاجه [ ص: 276 ] بصفة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذه المواضع كلها صريحة في تخطئة المستدل في مثل هذا المقام ووجوب تأديبه ، وإنما نبهت على هذا ؛ لأنه أنكر على ذكر لفظ المستدل في الإفتاء وليس بمنكر ، فإن المستدل تارة يكون في مقام التدريس والإفتاء والتصنيف وتقرير العلم بحضرة أهله ، وهذا لا إنكار عليه كما سيأتي ، وتارة يكون في الخصام والتبري من معرة أو نقص ينسب إليها هو أو غيره ، وهذا محل الإنكار والتأديب لا سيما إذا كان بحضرة العوام وفي الأسواق ، وفي التعارض بالسب والقذف ونحو ذلك ، ولكل مقام مقال ، ولكل محل حكم يناسبه .

            وكذلك الأثر الذي أشار إليه القاضي عن كاتب عمر بن عبد العزيز ، فإنه ما قصد بما ذكره إلا الاحتجاج على أنه لا ينقصه كفر أبيه والاستدلال عليه ، ومع ذلك أنكره عليه عمر ، وصرفه عن عمله ، أخبرني شيخنا قاضي القضاة شيخ الإسلام علم الدين بن شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني الشافعي - رحمه الله - إجازة عن أبيه شيخ الإسلام : أن الشيخ تقي الدين السبكي أخبره عن الحافظ شرف الدين الدمياطي ، أنا الحافظ يوسف بن خليل ، أنا أبو المكارم اللبان ، أنا أبو علي الحداد ، أنا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني ، ثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا أحمد بن الحسن الحذاء ، ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال : سمعت بعض شيوخنا يذكر أن عمر بن عبد العزيز أتى بكاتب يخط بين يديه وكان مسلما ، وكان أبوه كافرا ، فقال عمر للذي جاء به : لو كنت جئت به من أبناء المهاجرين ، فقال الكاتب : ما ضر رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر أبيه ، فقال عمر : وقد جعلته مثلا لا تخط بين يدي بقلم أبدا - هكذا أخرجه في الحلية ، فالكاتب قصد بهذا الكلام الاحتجاج ، والاستدلال على نفي النقص عنه ، وقد قال عمر في الرد عليه : إنه جعله مثلا ، فعلم أن المستدل لا منافاة بينه وبين ضارب المثل ، والجامع بينهما : أن ضرب المثل يراد للاستشهاد ، كما أن الاستدلال كذلك ، فبهذا القدر المشترك يصح إطلاق المستدل على ضارب المثل وعكسه ، ومن له إلمام بالأحاديث والآثار وكلام المتقدمين لا يستنكر ذلك ، فإنهم كثيرا ما يطلقون ضرب المثل على الحجة ؛ ولهذا سوى بينهما القاضي عياض ، حيث قال : على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره .

            ومما أطلق فيه الأولون : ضرب المثل على الحجة ما أخرجه ابن ماجه وغيره عن أبي سلمة أن أبا هريرة قال لرجل : يا ابن أخي ، إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فلا تضرب له الأمثال ، وكان عارضه بقياس من الرأي ، كما في بعض طرق الحديث عند [ ص: 277 ] الهروي في ذم الكلام ، أي فلا تقابله بحجة من رأيك ، فأطلق أبو هريرة على الحجة والاستدلال ضرب المثل ، واللغة أيضا تشهد لذلك ، قال في الصحاح : ضرب مثلا وصف وبين ، وقال ابن الأثير في النهاية : ضرب الأمثال اعتبار الشيء بغيره ، وتمثيله به ، وإنما حكمت في الإفتاء على لفظ المستدل ، وعللته بضرب المثل ؛ لأعرف أن المستدل الذي حكمت عليه هو المحتج بضرب ذلك مثلا للغير ، لا المستدل في الدرس والتصنيف ، ومذاكرة العلم بين أهله ؛ فإن ذلك لا يسمى في عرف العلماء ضرب مثل .

            وقصدت أيضا الاقتداء بالخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز في لفظه ، وقد وجدت للقصة طريقا آخر قال الهروي في ذم الكلام : أنا أبو يعقوب ، أنا أبو بكر بن أبي الفضل ، أنا أحمد بن محمد بن يونس ، ثنا عثمان بن سعيد ، ثنا يونس العسقلاني ، ثنا ضمرة ثنا علي بن أبي جميلة قال : قال عمر بن عبد العزيز لسليمان بن سعد : بلغني أن أبا عاملنا بمكان كذا وكذا زنديق قال : هو ما يضره ذلك يا أمير المؤمنين ، قد كان أبو النبي صلى الله عليه وسلم كافرا فما ضره ، فغضب عمر غضبا شديدا ، وقال : ما وجدت له مثلا غير النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : فعزله عن الدواوين .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية