الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: فلم تجدوا ماء، فتيمموا صعيدا طيبا : اعلم أن الله تعالى ذكر المرضى فقال: وإن كنتم مرضى أو على سفر ثم قال: فلم تجدوا ماء فلا بد أن يرجع الشرط إلى ما تقدم ذكره، وعدم الماء ليس معتبرا حقيقة في حق المريض، فيدل معنى الآية على أن الله تعالى إنما عنى بالموجود إمكان استعمال الماء وإن كان واجدا للماء صورة، ولكنه معجوز عنه، فكأنه لم يجده، فإنا لو لم نقدر ذلك، لم يستقم جعل قوله: فلم تجدوا عائدا إلى المرضى، وذلك خلاف الإجماع والنظم. وإذا كان معنى الوجود إمكان الاستعمال شرعا وطبعا، ولو كان الماء عنده وديعة، فليس واجدا للماء شرعا، وإن كان في استعماله التلف فليس واجدا للماء شرعا.

وإذا ثبت ذلك فقوله تعالى: فلم تجدوا ماء إذن أريد به وجودا لا يتضمن ضررا ظاهرا، وإذا بيع بثمن أكثر من ثمن المثل لم يجب عليه سداده.

واختلف قول الشافعي في من وجد من الماء ما لا يكفي لتمام طهارته: [ ص: 51 ] ففي قول: يتيمم، وهو قول أكثر العلماء، لأن الله تعالى جعل فرضه الشيئين: إما الماء وإما التراب، فإذا لم يكن الماء مغنيا عن التيمم كان غير موجود شرعا. وعلى القول الآخر يقول: إن الله تعالى ذكر الماء، فاقتضى ذلك أن لا يجد ما يقع عليه اسم الماء جملة، وإذا وجد من الماء ما لا يكفيه فقد وجد الماء، فلم يتحقق شرط التيمم. فإذا استعمله وفقد الماء، تيمم لما لم يجد.

واختلف قول الشافعي فيما إذا نسي الماء في رحله ثم تيمم، والصحيح أنه يعيد، لأنه إذا كان الماء عنده فهو واجد، لكنه لا يدري أنه واجد، وأن الشيء عنده، والكلام في علم الله تعالى، فإذا كان عند إنسان شيء فذلك الشيء هو موجود عنده، وإذا كان موجودا فهو واجد للموجود إذ يستحيل أن يكون موجودا عنده وليس بواجد له، إلا أنه نسي أنه واجد له.

والقائل الآخر يقول: إذا لم يعلمه فلم يجده، وقد يقول: كان عندي ولم أجده، وقد يكون الشيء في دار رجل فيطلبه فيقال له: هل وجدته أم لا؟ فيقول: وجدته أو ما وجدته، فإذا نسيه في رحله فلم يجده. فيقال: هذا إنما يستقيم إن لو طلبه فلم يجده، وعندنا لو طلب فلم يجد كان مقدورا، إلا أنه لا يجوز أن يكون في الرحل، فيطلب من الرحل فلا يجده، والطلب من الرحل شرط، حتى يقال لمن طلب ولم يجد: إنه لم يجد، والشافعي أوجب طلب الماء، لأنه لا يقال: لم أجد إلا إذا طلب، وإذا لم يطلب في مظنة الماء فلا يحسن أن يقال: لم أجد.

[ ص: 52 ] نعم; يجوز أن يقال: وجد فلان لقطة، وإن لم يكن طلبها، إنما لا يقال: لم يجد إلا إذا طلب فلم يجد. وهذا يعترض عليه أن الواحد منا قد يقول: أنا لا أجد ما أتوصل به إلى كذا، أو لم أجد أمر فلان مستقيما، والله تعالى يقول: وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين . وإذا كان لفظ الوجود لا يقتضي الطلب في قوله تعالى: ووجدوا ما عملوا حاضرا . فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا . لا أنهم طلبوا، ولا أنه يمكن الطلب في قوله تعالى: وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، لأن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بالطلب. وإن كان قد يجاب عن كل ذلك بأن الله تعالى طلب منهم الثبات على العهد، والطلب من الله تعالى هو الأمر به، فيصح إطلاق قوله: وما وجدنا ، لأنه يطلب منهم ما قدمه إليهم من العهد. وإذا قال القائل: فلان لا يجد ألف دينار، فمعناه: أنه لا يتسع طلبه له، وإن تمحل وطلب ...

وعلى الجملة لو قطعنا بأن لا ماء، فلا يجب عليه الطلب حتى يظهر عدم الماء في المصادر ، ولو ظهر وجوده لوجب عليه الطلب، حتى يجب عليه الطلب من الرفقة وفي مواضع إمارة الماء. [ ص: 53 ] وربما نسلم لهم إذا غلب الظن بعدم الماء، وهم يسلمون لنا إذا لم يبعد وجود الماء، فيرتفع الخلاف .

وفي أصحابنا من يقول: إذا لم يتيقن عدم الماء لم يصح التيمم، لأن عدم الماء شرط، والشرط لا بد من تيقنه. وهذا بعيد، فإنه وإن طلب وبالغ فلا يحصل التيقن من من عدم الماء وإنما يحصل الظن الغالب، فأما اليقين فغير مظفور به، وفي الوقت أمكن انتظار اليقين، فافترقا لذلك.

وإذا خاف في الاستعمال بالوضوء فوات الوقت، لم يتيمم عند أكثر العلماء، ومالك يجوز التيمم في مثل ذلك. وللشافعي مسائل تدل على ما يقارب مذهب مالك، واستقصيناها في المذهب. والذي لا يجوز يتعلق بقوله تعالى: فلم تجدوا ماء فتيمموا وهذا واجد، فقد عدم شرط صحة التيمم فلا يتيمم.

والقائل الآخر يقول: ما جاز التيمم في الأصل إلا لحفظ وقت الصلاة، ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء. فيقال: ولكن يمكن أن يقال: إلا أن السفر يكثر وإعواز الماء فيه يغلب، فلو جاز تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء، تكاسل الناس عن إعادة الصلاة، فأوجبت الصلاة بالتيمم تمرينا عليه. وهذا لا يتحقق فيما إذا كان فوت الصلاة نادرا في حالة خاصة فاعلمه.

فإن قيل: جازت صلاة الخائف لأجل الوقت مع ندور الخوف. [ ص: 54 ] ويجاب عنه بأن هناك وجد شرط صحة الصلاة وهو الخوف، وهاهنا عدم الشرط وهو العدم.

وقد قيل في حق المسافر والخائف ما أبيح التيمم، لئلا يفوت الوقت، ولذلك جاز في أول الوقت. فيقال: جوازه في أول الوقت لا ينافي ما قلناه، فإنه لو لم يجز في أول الوقت لم يجز في وسط الوقت، حتى ينتهي إلى قدر ينطبق على فعل الصلاة، وذلك عسر غير مضبوط فلم يمكن اعتباره. واعلم أن هذا الكلام لا يستقيم لأبي حنيفة من وجهين: أحدهما: أنه يجوز التيمم لخوف فوات صلاة الجنازة مع عدم الشرط، وقد قال تعالى: فلم تجدوا ماء وهو واجد.

والثاني: أنه جوز التيمم قبل الوقت من غير ضرورة، وذلك يدل على أنه لا تعتبر الحاجة. واختلف في من حبس في حبس; لا يقدر على ماء ولا تراب نظيف، فالشافعي يقول: يصلي ويعيد. وأبو حنيفة وزفر ومحمد يقولون: لا يصلي أصلا حتى يقدر على الماء. وإذا ثبت هذا فقد جعل الله تعالى التيمم شرط صحة الصلاة أو الوضوء، فإذا لم يقدر عليهما فربما يقول القائل: إذا لم يتحقق شرط الشيء لم يثبت المشروط دونه، ولم يتحقق الشرط في حق من عدم الماء والتراب، فلا جرم. قال أبو حنيفة : لا يصلي لعدم شرط العبادة.

وقال المزني: يصلي لأن الشرط إنما أريد في هذا الموضع لتكملة المشروط ولحسن نظامه، لا لأنه شرط لعينه، ومتى كان كذلك لم تزد [ ص: 55 ] رتبته على رتبة الأركان، والعجز عن بعض الأركان لا يسقط القدر المقدور عليه، وكذلك ها هنا فعلى هذا يصلي ولا يعيد. والشافعي يقول: أما الذي ذكره المزني من أنه يصلي فصح، ولكنه يصلي مراعاة لحق الوقت مع العجز عن كماله، فإذا قدر على الكمال وجب الإتيان به.

وهذا القياس كان يقتضي مثله في ترك بعض الأركان في حق المريض، أو ترك الوضوء في حق المسافر، إلا أن تلك الأعذار عامة، ويكثر وقوعها، فتكليف القضاء يجر حرجا.

وقد استقصينا ذلك في مسائل الخلاف. وقد احتج المزني بما روى في قلادة عائشة رضي الله عنها حين ضلت، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ندبهم لطلب القلادة، صلوا بلا وضوء ولا تيمم .

والتيمم إذا لم يكن مشروعا فقد صلوا بلا طهارة أصلا، ومنه قال المزني: لا إعادة، وهو نص في جواز الصلاة مع عدم الطهارة مطلقا عند تعذر الوصول إليها. فإن قيل: جواز الصلاة كان لعدم الماء، من حيث لا بدل له كالتراب الذي لا بدل له الآن.

واختلف العلماء في جواز التيمم قبل وقت الصلاة، والشافعي لا يجوزه، فإنه لما قيل لنا: "فإن لم تجدوا ماء فتيمموا" ، ظهر منه إجزاء التيمم بالحاجة، ولا حاجة قبل الوقت، وعلى هذا لا يصلي فرضين بتيمم واحد، والمسألتان استقصيناهما في علم الخلاف، وأصلهما كتاب الله تعالى، وهو تقييد التيمم بوقت الحاجة والضرورة وهذا بين. [ ص: 56 ] ولما قال الله سبحانه وتعالى: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا جعل وجوب الطهارة للقيام إلى الصلاة، وتقديره: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، فإذا شرع في الصلاة بالتيمم وصح الشروع ثم وجد الماء، فليس هو قائما إلى الصلاة، فلا يتناوله الأمر بالطهارة. وتتمة القول فيه: أنه قد صح منه أداء ما شرع فيه، ومتى صح منه أداء ما شرع فيه، فلا يمكن أن يقال: إنه كان التيمم شرطا لبعض الصلاة، فإن كون التيمم شرطا لبعض الصلاة لا يتحقق معناه، مع أن المشروط لا بعض له، فلا بد أن يجعل شرطا للجميع ضرورة تصحيح البعض، فإذا حكمنا بصحة البعض على تقدير أن التيمم لا بعض له، اقتضى ذلك كون التيمم شرطا لصحة جميع الصلاة، وخروج الوضوء عن كونه شرطا في حالة كون التيمم شرطا.

ولا يجوز أن يقال إن كون التيمم شرطا موقوف، فإنه لو كان كذلك كانت صحة الصلاة موقوفة، وهي صحيحة قطعا بلا وقف. وإن هم قالوا: إذا وقع في علم الله تعالى أن يجد الماء في خلال الصلاة لم تكن الصلاة صحيحة من الأول، فهذا باطل، فإن حكم الله تعالى مبني على وجود سببه، وعلى توافر شرائطه، وقد توافرت شرائط الصحة في أول الصلاة، فلا يمكن الحكم بعدم الصحة. فإن قيل: فإذا تخرق الخف أو انقضت مدة المسح، أليس تبطل الصلاة، مع أن القدر الذي وقع الشروع فيه كان صحيحا؟

والجواب: أن ذلك سببه أن الحكم بالصحة على تقدير توافر الشرائط، وجعلنا التيمم شرطا لصحة جملة الصلاة، ولأنه لا يمكن جعله شرطا لصحة البعض، وليس في حق الماسح شيء يمكن أن يقال إنه جعل شرطا [ ص: 57 ] للصلاة بدلا عما فات، فإن الخف لا بدل له، والخف شرط لجميع الصلاة، فإذا لم يكن لم تصح، وها هنا التيمم هو الشرط وقد وجد، فهذا تمام ما أردنا بيانه من ذلك.

وأبعد بعض المصنفين في أحكام القرآن فقال: كما قال تعالى: فلم تجدوا ماء فتيمموا ، فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من ماء، لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه، سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه، ولا يمنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء، فلما كان كذلك لم يجز التيمم مع وجوده بالظاهر.

وهذا جهالة مفرطة، فإن إطلاق اسم الماء لا ينصرف إلى النبيذ، ولا حاجة فيه إلى إطناب، وتقدير اشتمال اسم الماء عليه كتقدير اشتماله على كل مرقة ونبيذ في الدنيا، وذلك جهل، ولو كان كذلك لدخل تحت مطلق اسم الماء، ولو دخل تحت مطلق اسم الماء لم يترتب ماء على ماء. وقد قلتم: لا يتوضأ بالنبيذ مع وجود الماء، فهذا ما أردنا بيانه من هذا المعنى.

ووجب التيمم إلى المرفقين مثل الوضوء، لأن اسم اليد شامل للعضو إلى المنكب، إلا ما خصه الدليل، وقد بينا وجه الكلام عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية