الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 43 ] الخامسة : فيه المحكم والمتشابه ، وللعلماء فيهما أقوال كثيرة ، وأجود ما قيل فيه : إن المحكم المتضح المعنى ، والمتشابه مقابله ، لاشتراك ، أو إجمال ، أو ظهور تشبيه . والأظهر الوقف على إلا الله ، لا والراسخون في العلم ، خلافا لقوم .

                قالوا : الخطاب بما لا يفهم بعيد . قلنا : لا بعد في تعبد المكلف بالعمل ببعض الكتاب ، والإيمان ببعض ، والكلام في هذا مستقصى في كتاب " بغية السائل " .

                التالي السابق


                المسألة " الخامسة فيه " : أي : في القرآن ، " المحكم والمتشابه . وللعلماء فيهما " ، أي : في المحكم والمتشابه " أقوال كثيرة " .

                قلت : سأذكر إن شاء الله تعالى ما تيسر منها آخر المسألة ، وينبغي الكلام في لفظ المحكم والمتشابه ومعناه .

                أما لفظه : فالمحكم : مفعل من أحكمت الشيء أحكمه إحكاما ; فهو محكم : إذا أتقنته ; فكان على غاية ما ينبغي من الحكمة . ومنه بناء محكم ، أي : ثابت متقن ، يبعد انهدامه .

                والمتشابه : متفاعل من الشبه ، والشبه ، والشبيه ، وهو ما بينه وبين غيره أمر مشترك ; فيشتبه ويلتبس به .

                وأما معناه : فأجود ما قيل فيه : إن المحكم المتضح المعنى ، كالنصوص والظواهر ; لأنه من البيان في غاية الإحكام والإتقان .

                و " المتشابه مقابله " : أي : مقابل المحكم ، وهو غير المتضح المعنى ; فتشتبه بعض [ ص: 44 ] محتملاته ببعض للاشتراك ، أي : تشابهه .

                وعدم اتضاح معناه : إما لاشتراك ، كلفظ العين والقرء ، ونحوهما من المشتركات ، أو لإجمال ; وهو إطلاق اللفظ بدون بيان المراد منه ، كقوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده [ الأنعام : 141 ] ، ولم يبين مقدار الحق ، ونحو ذلك مما سيأتي في باب المجمل والمبين إن شاء الله تعالى . أو لظهور تشبيه في صفات الله تعالى ، كآيات الصفات وأخبارها نحو : ويبقى وجه ربك [ الرحمن : 27 ] ، لما خلقت بيدي [ ص : 75 ] ، بل يداه مبسوطتان [ المائدة : 64 ] ، يد الله ملأى لا تغيضها النفقة ، فيضع الجبار قدمه ، فيظهر لهم في الصورة التي يعرفونها ، خلق الله آدم على صورة الرحمن ، ونحو ذلك ، مما هو كثير في الكتاب والسنة ; لأن هذا اشتبه المراد منه على الناس ; فلذلك قال قوم بظاهره ; فجسموا وشبهوا ، وفر قوم من التشبيه ; فتأولوا وحرفوا ; فعطلوا ، وتوسط قوم ; فسلموا [ ص: 45 ] وأمروه كما جاء ، مع اعتقاد التنزيه ; فسلموا ، وهم أهل السنة .

                قوله : " والأظهر الوقف على إلا الله ، لا والراسخون في العلم [ آل عمران : 7 ] ، خلافا لقوم " ، هذا ترجيح لمذهب أهل السنة في التسليم وترك التأويل .

                ومعنى الكلام : أنه لما ثبت أن من المتشابه في القرآن آيات الصفات ، التي ظاهرها المشاهد التشبيه ; فالحكم فيه عندنا التسليم ، مع اعتقاد التنزيه ، وعدم التأويل المفضي إلى التعطيل ، ولما كان مأخذ الخلاف بين أهل التسليم والتأويل هو قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية [ آل عمران : 7 ] ، احتيج إلى الكلام عليها ليظهر الحق .

                وذلك أن أهل السنة قالوا : الوقف التام في الآية على قوله تعالى : وما يعلم تأويله أي : تأويل المتشابه إلا الله ، وقوله تعالى : والراسخون في العلم مبتدأ مستأنف ، يقولون خبره . وإذا كان المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله ، وجب أن لا يعلمه الخلق ; فيجب علينا الإيمان به ، والتسليم له ، مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله ، جمعا بين المتشابه وبين قوله تعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ ص: 46 ] [ الشورى : 11 ] ; فأثبت ونزه في آية واحدة .

                وقالت المؤولة ، وهم المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم : الوقف التام في الآية على قوله تعالى : والراسخون في العلم ، أي : يعلمون تأويله مع الله تعالى ; فأثبت له تأويلا ، وأخبر أن أهل العلم يعلمونه . وإذا كان له تأويل معلوم لأهل العلم ، وجب أن لا يحمل على ظاهره الموهم للتشبيه ، المستحيل على الله تعالى ببراهين العقل والنقل ; لأن ذلك حمل له على مراد الله سبحانه وتعالى منه .

                قوله : " قالوا : الخطاب بما لا يفهم بعيد هذا دليل المؤولة . "

                وتقريره : أنه لو اختص الله تعالى بعلم تأويل المتشابه دون أهل العلم ، لكان خطابه للناس به خطابا لهم بما لا يفهمونه ، والخطاب بما لا يفهم بعيد ، بل ربما كان محالا ; لأن فائدة الخطاب الإفهام ، فإذا وقع الخطاب على وجه لا يحصل منه الإفهام ، خلا عن فائدته التي وضع لها ; فيكون عبثا ، والعبث على الله تعالى محال .

                قوله : " قلنا : " لا بعد في تعبد المكلف بالعمل ببعض الكتاب والإيمان ببعض " " ، هذا جواب عن دليلهم المذكور .

                وتقريره : أنا لا نسلم بعد ما ذكرتموه ، إذ لا بعد في أن يتعبد الله تعالى عباده بإنزال كتابه عملا وإيمانا ، بأن ينزله محكما يتعبدهم بالعمل به ، ومتشابها يتعبدهم بالإيمان به ، تسوية بين الأبدان والنفوس في التعب والتكليف ; لأن التكليف إلزام ما فيه مشقة كما سبق ; فالمشقة على الأبدان بما تعانيه من حركات التكليف ونحوها ، كالصلاة ، والحج ، والجهاد . ومشقة النفوس والعقول بما تعانيه من [ ص: 47 ] التصديق بما لا يدركه ، وهو أعظم المشقتين ، كما بينته في " القواعد الصغرى " ، ولهذا قدم الله تعالى المؤمنين بالغيب في قوله تعالى : الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة [ البقرة : 3 ] ، وأيضا : فإن التكليف عملي واعتقادي ، ثم العملي منه معقول ، ومنه غير معقول ، كالوضوء ، والغسل ، وأشباههما ، وأفعال الحج من رمل واضطباع ، وتجرد ونحوه . فما المانع أن يكون التكليف الاعتقادي أيضا مشتملا على ما يفهم وما لا يفهم ؟ مع أن ذلك أجدر بحصول فائدة التكليف ، وهي تبين المطيع من العاصي .

                فائدة : اختلف الناس في المحكم والمتشابه ; فقال الطنزي - بالنون والزاي المعجمة - في تفسير المحكمات : قيل : هي الآيات الثلاث في آخر الأنعام : قل تعالوا إلى آخرهن [ الأنعام : 151 - 153 ] ، وقيل : ما لم ينسخ ، وقيل : النص ، وقيل : غير المجمل ، هن أم الكتاب ، أي : أصله . وأخر متشابهات ، هي ضد المحكم على الوجوه المذكورة . هذا معنى كلامه .

                وحكى القرطبي فيه أقوالا :

                أحدها - وهو قول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، وهو مقتضى قول الشعبي والثوري وغيرهما - : المحكمات من آي القرآن ما عرف تأويله ، وفهم معناه وتفسيره ، والمتشابه : ما استأثر الله بعلمه دون خلقه ، ولم يكن لأحد منهم سبيل إلى علمه .

                قال بعضهم : وذلك كالحروف المقطعة في أوائل السور ، ووقت خروج الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، ووقت قيام الساعة .

                [ ص: 48 ] قال القرطبي : هذا أحسن ما قيل فيه .

                قلت : وهو معنى ما ذكرناه في " المختصر " .

                الثاني : يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : المحكمات : ناسخه ، وحرامه ، وفرائضه ، وما نؤمن به ونعمل به . والمتشابهات : المنسوخات ، ومقدمه ، ومؤخره ، وأمثاله ، وأقسامه ، وما نؤمن به ولا نعمل به .

                الثالث : وهو قول ابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك : المحكمات : الناسخات ، والمتشابهات : المنسوخات .

                الرابع : وهو قول محمد بن جعفر بن الزبير ، ومجاهد ، وابن إسحاق - : المحكمات هي التي فيها حجة الرب ، وعصمة العباد ، ودفع الخصوم والباطل ، وليس لهن تحريف ولا تصريف عما وضعن عليه ، والمتشابهات : لهن تصريف ، وتحريف ، وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد . قال ابن عطية : وهو أحسن الأقوال في الآية .

                الخامس : قال النحاس : أحسن ما قيل فيه : إن المحكم ما كان قائما بنفسه ، لا يحتاج إلى رده إلى غيره ، نحو ولم يكن له كفوا أحد [ الإخلاص : 4 ] ، وإني لغفار لمن تاب [ طه : 82 ] ، والمتشابهات نحو إن الله يغفر الذنوب جميعا ، يرجع فيه إلى قوله جل وعلا : وإني لغفار لمن تاب وإلى قوله عز وجل : إن الله لا يغفر أن يشرك به [ النساء : 48 ] .

                وقال أبو عثمان : المحكم : فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها .

                وقال محمد بن الفضل : هو سورة الإخلاص ; لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط .

                [ ص: 49 ] وقال ابن خويزمنداد : للمتشابه وجوه ، والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء ، أي الآيتين نسخت الأخرى ، كما ذهب عمر ، وزيد بن ثابت ، وابن مسعود ، وغيرهم ، رضي الله عنهم ; إلى أن عدة الحامل المتوفى عنها تنقضي بوضع الحمل ، بناء على أن قوله سبحانه وتعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق : 4 ] ; نسخت قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ البقرة : 234 ] ، وقال علي وابن عباس ، رضي الله عنهم : لم تنسخها ، وتعتد بأطول الأجلين ، وكاختلافهم في الوصية للوارث ; نسخت أم لا ، وكتعارض قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين [ النساء : 23 ] بملك اليمين ، والأخريان يقتضيان جوازه .

                وذكر الشيخ أبو محمد في المحكم والمتشابه بعد القول الذي ذكرناه في " المختصر " ، وهو قول القاضي ، ثلاثة أقوال أخر :

                أحدها : قول ابن عقيل : المتشابه : هو ما غمض علمه على غير العلماء المحققين ، كالآيات التي ظاهرها التعارض ، نحو : هذا يوم لا ينطقون [ المرسلات : 35 ] ، مع الآية الأخرى : قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا [ يس : 52 ] .

                [ ص: 50 ] الثاني : قول بعض أهل العلم : المتشابه : الحروف المقطعة في أوائل السور ، والمحكم : ما عداه .

                الثالث : قول بعضهم : المحكم : الوعد ، والوعيد ، والحرام ، والحلال ، والمتشابه : القصص ، والأمثال .

                قلت : وقال بعض الناس : إن القرآن كله محكم ، لقوله تعالى : كتاب أحكمت آياته [ هود : 1 ] : وقال آخرون : كله متشابه ، لقوله تعالى : كتابا متشابها [ الزمر : 23 ] ذكرهما القرطبي ، وليسا مما نحن فيه ; لأن المراد بـ أحكمت آياته : يعني : في نظمها ، ووضعها ، وجزالة لفظها ، حتى بلغ حد الإعجاز . ومتشابه الكتاب : تصديق بعضه بعضا ، لتشابه معانيه ومضموناته ; فهو غير متناقض بحيث يكذب بعضه بعضا . فأما التشابه فيما نحن فيه ; فهو التشابه الاحتمالي الإجمالي من قوله تعالى : إن البقر تشابه علينا [ البقرة : 70 ] ، أي : إن لفظ البقر يحتمل أشخاصا كثيرة من البقر ، لا نعلم أيها المراد . ولهذا قيل : إن المتشابه ما يحتمل وجوها ، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد ، وأبطل الباقي ، صار المتشابه محكما . والمحكم : ما لا التباس فيه ، ولا يحتمل إلا وجها واحدا .

                قلت : هذه جملة صالحة مما ذكر في المحكم والمتشابه .

                وذكر الإمام فخر الدين تقسيما أدرج فيه النص ، والظاهر ، والمجمل ، والمؤول ، والمحكم ، والمتشابه .

                ومعنى تقسيمه وحاصله : أن اللفظ المفيد لمعنى ; إما أن لا يحتمل غير ذلك [ ص: 51 ] المعنى ، وهو النص ، أو يحتمل غيره ; فإما على السواء ، وهو المجمل ، أو مع رجحان أحد معانيه ; فالراجح ظاهر ، والمرجوح مؤول . فالنص والظاهر يشتركان في رجحان الإفادة ، غير أن النص مانع من احتمال غيره ، والقدر المشترك بينهما هو المحكم ، والمؤول والمجمل يشتركان في عدم الرجحان ، غير أن المؤول مرجوح ; والمجمل غير مرجوح ، والقدر المشترك بينهما هو المتشابه .

                قلت : هذا ما لم أعلمه لغيره ، وأحسبه من اصطلاحاته مع نفسه ، مع أن ما قاله يمكن توجيهه ، ويكون من بعض الأقوال المذكورة في المسألة .

                والمختار من الأقوال كلها ما ذكرناه في " المختصر " ، وأن متشابه القرآن ، أعني آيات الصفات ونحوها ، لا يعلم تأويله إلا الله سبحانه وتعالى ، لوجوه :

                أحدها : أن أما في لغة العرب لتفصيل الجمل ، ولا بد أن يذكر في سياقها قسمان : لفظا : وهو أكثر ما يوجد من مواردها ، أو تقديرا ، نحو : فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين [ القصص : 67 ] . ولم يذكر القسم الآخر لدلالة القسم الأول عليه ، إذ قد فهم منه ; فكأنه قال : وأما من لم يؤمن ، ويعمل صالحا ; فلا يفلح ، وله نظائر ، وقد قال سبحانه وتعالى هاهنا : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله [ آل عمران : 7 ] ، هذا تمام القسم الأول المذكور في سياق " أما " فاقتضى وضع اللغة وعرفها واستعمالها ذكر قسم آخر ; فكان تقديره : وأما الراسخون في العلم ; فيقولون : آمنا به ، لكن دلت أما الأولى على الثانية ; فحذفت لوجود ما يدل عليها ، ثم [ ص: 52 ] حذفت الفاء من جوابها ; لأنها فرع عليها .

                فإن قيل : هذا إضمار يحتاج إلى دليل ؟

                قلنا : قد دل عليه الدليل اللغوي وضعا ، واستعمالا ، وعرفا ، وهو ما ذكرناه من اقتضاء " أما " قسمين فصاعدا بعدها .

                الوجه الثاني : أن الواو في قوله تعالى : والراسخون ، وإن احتملت أن تكون غير عاطفة ، غير أن هاهنا ما يرجح كونها استئنافية من وجوه :

                أحدها : أنه لو أراد العطف ، لقال : ويقولون آمنا به . عطفا لـ " يقولون " على " يعلمون " المضمر ، إذ التقدير : وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يعلمونه ، ويقولون : آمنا به ، أو ويعلمه الراسخون ويقولون .

                فأما قولهم : إن " يقولون " جملة في اللغة ; لأنه نصب للحال ، مع إضمار فعلها العامل فيها ، ولو جاز ذلك لجاز : عبد الله راكبا ، بمعنى : أقبل ; فكذلك لا يجوز : والراسخون قائلين ، بتقدير : يعلمونه قائلين .

                الوجه الثاني : ما روى عبد الرزاق في " تفسيره " عن [ معمر عن ] ابن طاووس ، عن أبيه ، قال : كان ابن عباس يقرؤها : " وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون [ في العلم ] : آمنا به " . فهذه القراءة بينت إجمال الواو في الآية ، [ ص: 53 ] وأنها استئنافية لا عاطفة ، ثم إن كان ابن عباس سمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي تفسير منه للآية ، وقامت الحجة بتفسير من فوض إليه بيان القرآن ، وإن لم يكن سمعها منه ; فهو مرجح لقولنا من وجهين :

                أحدهما : أن ما ذكرناه قد وجد له مبين مرجح ، وهو قراءة ابن عباس رضي الله عنهما ، المذكورة ، وما ذكرتموه مجرد احتمال .

                فإن قيل : فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الراسخون معطوف على اسم الله عز وجل ، وأنهم داخلون في علم المتشابه ، وقاله الربيع ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والقاسم بن محمد ، وغيرهم .

                قلنا : هذا لا يثبت عن ابن عباس كثبوت ما ذكرناه عنه بالسند الصحيح .

                قال الخطابي : إنما روي عن مجاهد أنه نسق " الراسخون " على ما قبله ، وزعم أنهم يعلمونه .

                قلت : ثم لو ثبت هذا عن ابن عباس ، ومن ذكروه غيره ، لكان ما ذكروه عن ابن عباس من العطف معارضا بما رويناه من الاستئناف ، وأما المذكورون معه ممن روي عنه العطف ; فقولهم معارض بقول ابن عمر ، وعائشة ، وعروة بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيرهم رضي الله عنهم ، قالوا بالاستئناف ، وهو مذهب الكسائي ، والفراء ، والأخفش ، وأبي عبيد ، ورواه يونس عن الأشهب عن مالك ; فيما حكاه الطبري ، وقال أبو نهيك الأسدي : إنكم تصلون هذه الآية ، وإنها مقطوعة ، [ ص: 54 ] وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم : آمنا به كل من عند ربنا . وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز . وهؤلاء أئمة العربية والقراءة والأحكام ، وهم أكثر وأشهر ممن ذكرتم ; فيترجح بذلك ما ذكرناه .

                الوجه الثاني : أن القراءة المذكورة في الاستئناف مروية بالسند المذكور عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وموضعه من علم القرآن غير خفي ، خصوصا وقد دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة ومعرفة التأويل ; فهذه القراءة تأويل منه على تقدير أن لا يكون سمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقدم .

                الوجه الثالث في ترجيح كونها استئنافية : أن بتقدير ذلك تكون الجملة حالا ، والحال : فضلة خارجة عن ركن الجملة ، وكون الجملة ركنا أقوى من كونها فضلة ، وإذا دار أمر اللفظة بين أقوى الحالين وأضعفهما ، كان حمله على الأقوى أولى .

                الوجه الرابع من أصل الاستدلال على المسألة : أن سياق الآية دل على ذم مبتغي المتشابه ، إذ وصفوا بزيغ القلوب ، وابتغاء الفتنة ، وقد صرحت السنة بذمهم ; فروى القاسم وابن أبي مليكة ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات الآية [ آل عمران : 7 ] ; فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ; فأولئك الذين سمى الله ; فاحذروهم . متفق عليه ، ورواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، [ ص: 55 ] والترمذي وصححه .

                وإذا ثبت بالكتاب والسنة أن متبع المتشابه مذموم ; فلو كان تأويل المتشابه معلوما لأهل العلم ، لم يكن متبعه مذموما ; لأن الاتباع للمتشابه ; إما أن يكون هو الاقتداء به كقوله تعالى : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم [ الأعراف : 3 ] ، أو يتبعه بمعنى السؤال عن معانيه ومشكلاته .

                فإن كان الأول ; فالمتبع له : إما من الراسخين في العلم ، أو من غيرهم ، فإن كان من الراسخين في العلم ; فقد عمل بما علم ; فهو يستحق المدح لا الذم ، وإن كان من غير الراسخين ; فقد قلد الراسخين في أمر دينه ، وهذا شأن المقلد ، لقوله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ النحل : 43 ] .

                وإن كان المراد بالاتباع التتبع والسؤال ; فهذا السائل يتعرف تأويل القرآن من أهله - الراسخين في العلم - وتعلم التأويل من أهله أقل أحواله أن يكون مندوبا ; فلا يكون مذموما ، فلما رأيناه قد أطلق ذم مبتغي تأويل المتشابه ، علمنا أن ذلك لكونه يزاحم البارئ جل جلاله فيما استأثر بعلمه ، وقد قيل في المثل : إذا استأثر الله تعالى بشيء فاله عنه .

                نعم ، قد قيل : اتباع المتشابه قد يكون للتشكيك في القرآن ، وإضلال العوام ، وهو زندقة حكم فاعله القتل ، وقد يكون لاعتقاد ظاهره من التجسيم [ ص: 56 ] والتشبيه ، والأصح فيه كفر فاعله ، إذ هو كعابد الصنم ، وقد يكون على جهة الإكثار منه لا للتشكيك ولا للتشبيه ، كما فعل صبيغ بن عسل حين أكثر منه ، وحكمه التأديب ، كما أدب عمر رضي الله عنه صبيغا ، وقد يكون على جهة البحث عن تأويله وإيضاح معناه ، وفي جوازه قولان بين السلف والخلف ، وإجماع السلف على المنع منه ، وتفويض أمره إلى الله سبحانه وتعالى ، فإن حمل اتباعه في الآية والحديث على أحد الوجوه الثلاثة المذمومة ، لم يكن في ذم متبع المتشابه حجة على أن الراسخين لا يعلمون تأويله ، لكن الذم ورد من غير تفصيل ; فيقتضي عموم الاتباع .

                الوجه الرابع : إن قول الراسخين في العلم : آمنا به ، يدل على تفويض منهم ، وتسليم لما لم يقفوا على حقيقة المراد به ، وهو من قبيل الإيمان بالغيب الذي مدح عليه أهله ، وكذلك قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين [ القصص : 52 - 53 ] ، وهذا ظاهر في التسليم لمراد الله سبحانه وتعالى منه ، وإن كان لا ينافي فهمهم المراد به ، نعم قولهم في هذه الآية : كل من عند ربنا ، بعد قولهم : آمنا به ، يدل دلالة قوية على التفويض لمراد الله تعالى منه ، وصار معنى قولهم : إن المحكم الذي يفهم المراد منه ، والمتشابه الذي لا يفهم المراد به ، كل واحد من القسمين هو من عند ربنا ; فنحن نؤمن بهما عن فهم وتعقل في المحكم ، وتفويض وتسليم في المتشابه .

                واحتج من قال في الواو بالعطف بوجوه :

                أحدها : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ومجاهد ، أنهما قالا : نحن ممن يعلم تأويله ، يعني المتشابه .

                [ ص: 57 ] الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن عباس رضي الله عنهما : ( ( اللهم علمه التأويل ) ) ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مستجاب ; فدل على أن ابن عباس رضي الله عنهما علم التأويل ، وهو عام في تأويل المتشابه وغيره ، وإذا علمه ابن عباس ، جاز أن يعلمه غيره من الراسخين ، إذ لا قائل بالفرق .

                الوجه الثالث : أن تسميتهم راسخين في العلم يقتضي علمهم بتأويل المتشابه ، وإلا لم يكن لهم فضيلة على غيرهم ، نعم من المتشابه ما يعلمه الراسخون ، ومنه ما استأثر الله تعالى بعلمه دونهم ، كالروح ، ووقت الساعة ، وأماراتها التي تتقدمها ، كالدجال ، ونحوه . فمن قال : إن المتشابه لا يعلمه الراسخون ، أراد به هذا ، أما ما أمكن علمه بحكمة على وجه سائغ في اللغة ; فلا .

                والجواب عن الأول : أنه لا يثبت عن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما . وإن ثبت فهو معارض بما سبق عن ابن عباس رضي الله عنهما في عكسه ، ومن اتفاق الجمهور على خلاف مجاهد .

                وعن الثاني : أنه ليس من لوازم دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إجابته بنفس ما يدعو به ، بل ربما صرف إلى غيره ، بأن يعوض عنه بأمر دنيوي أو أخروي . وقد دعا بدعوات فلم يجب فيها ; فعوض عنها دعوات مستجابات في الآخرة ، ادخرهن شفاعة لأمته ، وقال : سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ; فأعطانيها ، وسألته أن لا يلبسهم شيعا فمنعنيها . سلمنا أن من لوازم دعائه الإجابة ; لكن التأويل محمول على [ ص: 58 ] تأويل المحكم الذي ليس بمتشابه ; إما تخصيصا له بذلك بأدلتنا ، أو أنه كان معهودا بينهم ; لعلمهم أن المتشابه مما استأثر الله تعالى به ; فتكون اللام في التأويل للعهد .

                وعن الثالث : بأن المراد بالراسخين في العلم ; الراسخون في العلم بالله ومعرفته ، وأنه لا سبيل إلى الوقوف على كنه ذاته وصفاته وأفعاله لغيره ، كما حكي عن الصديق رضي الله عنه أنه قال : العجز عن درك الإدراك إدراك . وقال :

                حقيقة المرء ليس المرء يدركها فكيف كيفية الجبار في القدم

                أما العالمون بحمل المتشابه على مجاز كلام العرب ; فليسوا براسخين ، بل ليتهم لا يكونون خاسرين ، إذ الإقدام على وصف البارئ جل جلاله بما لم يأذن فيه ، ولا دليل قاطع عليه - مع إمكان سلوك طريق السلامة ، بالسكوت والتسليم والتفويض - بعيد عن العلم فضلا عن الرسوخ فيه . وقد أطلت الكلام في هذه المسألة ; لأنها من الأصول الكبار ، ومع ذلك ; هي تحتمل أكثر من هذا .

                قوله : " والكلام فيها مستقصى في " بغية السائل " " ، هذا كتاب كنت صنفته [ ص: 59 ] ببغداد ، ذكرت فيه جملة من أصول الدين ، وكان أصل الباعث لي على تأليفه هذه المسألة ; فاستقصيت فيها ما أظنه أبسط من هذا . وهاهنا أشياء ليست في ذلك ، وسميته " بغية السائل عن أمهات المسائل " ; لأني تحريت فيه ذكر المسائل الكبار من مسائل العقائد ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، وهذا آخر الكلام على مسائل الأصل الأول ، وهو الكتاب .




                الخدمات العلمية