الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 28 ] المسألة الثالثة : احتج العلماء بهذه الآية على أن صيغة الأمر تفيد الوجوب ، فقالوا : إنه تعالى ذم إبليس بهذه الآية على ترك ما أمر به ولو لم يفد الأمر الوجوب لما كان مجرد ترك المأمور به موجبا للذم .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قالوا : هب أن هذه الآية تدل على أن ذلك الأمر كان يفيد الوجوب ، فلعل تلك الصيغة في ذلك الأمر كانت تفيد الوجوب . فلم قلتم : إن جميع الصيغ يجب أن تكون كذلك ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : قوله تعالى : ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) يفيد تعليل ذلك الذم بمجرد ترك الأمر ، لأن قوله : ( إذ أمرتك ) مذكور في معرض التعليل ، والمذكور في قوله : ( إذ أمرتك ) هو الأمر من حيث إنه أمر لا كونه أمرا مخصوصا في صورة مخصوصة ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون ترك الأمر من حيث إنه أمر موجبا للذم ، وذلك يفيد أن كل أمر فإنه يقتضي الوجوب وهو المطلوب .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : احتج من زعم أن الأمر يفيد الفور بهذه الآية قال : إنه تعالى ذم إبليس على ترك السجود في الحال ، ولو كان الأمر لا يفيد الفور لما استوجب هذا الذم بترك السجود في الحال .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : اعلم أن قوله تعالى : ( ما منعك ألا تسجد ) طلب الداعي الذي دعاه إلى ترك السجود ، فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الداعي ، وهو أنه قال : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) ومعناه : إن إبليس قال : إنما لم أسجد لآدم ؛ لأني خير منه ، ومن كان خيرا من غيره ، فإنه لا يجوز أمر ذلك الأكمل بالسجود لذلك الأدون ، ثم بين المقدمة الأولى وهو قوله : ( أنا خير منه ) بأن قال : ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) والنار أفضل من الطين ، والمخلوق من الأفضل أفضل ، فوجب كون إبليس خيرا من آدم . أما بيان أن النار أفضل من الطين ، فلأن النار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السماوات ملاصق لها ، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السماوات ، وأيضا فالنار قوية التأثير والفعل ، والأرض ليس لها إلا القبول والانفعال . والفعل أشرف من الانفعال ، وأيضا فالنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة ، وأما الأرضية والبرد واليبس فهما مناسبان للموت . والحياة أشرف من الموت ، وأيضا فنضج الثمار متعلق بالحرارة ، وأيضا فسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلا في هذين الوقتين ، وأما وقت الشيخوخة ، فهو وقت البرد واليبس المناسب ، لا جرم كان هذا الوقت أردأ أوقات عمر الإنسان . فأما بيان أن المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر ؛ لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما بيان أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون ؛ فلأنه قد تقرر في العقول أن من أمر أبا حنيفة والشافعي وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحا في العقول ، فهذا هو تقرير لشبهة إبليس .

                                                                                                                                                                                                                                            فنقول : هذه الشبهة مركبة من مقدمات ثلاثة .

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : إن النار أفضل من التراب ، فهذا قد تكلمنا فيه في سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما المقدمة الثانية : وهي أن من كانت مادته أفضل فصورته أفضل ، فهذا هو محل النزاع والبحث ؛ لأنه لما كانت الفضيلة عطية من الله ابتداء لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة . ألا ترى أنه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر ، والنور من الظلمة والظلمة من النور ، وذلك يدل على أن الفضيلة لا تحصل إلا بفضل الله تعالى لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر .

                                                                                                                                                                                                                                            وأيضا التكليف إنما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل ، فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه ، وأيضا فالفضل إنما يكون بالأعمال وما يتصل بها لا بسبب المادة . ألا ترى أن الحبشي المؤمن مفضل على القرشي الكافر .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية