الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ وقوع التكلف بالمحال ]

                                                      وأما الوقوع السمعي ، فاختلفوا فيه ، والجمهور على عدم وقوعه ، وقيل : إن الأستاذ حكى فيه الإجماع . قال الإمام في " الشامل " : وإليه صار الدهماء من الأئمة ، وعليه جل الفقهاء قاطبة ، وصار كثير من المتكلمين إلى وقوعه . وفصل بعضهم بين الممتنع لذاته كقلب الحقائق مع بقاء الحقيقة الأولى ، فيمتنع . وأما الممتنع لغيره فيجوز وهو ظاهر اختيار الإمام في " الشامل " . وقيل : وقع في حق الكفار دون المسلمين ، حكاه ابن القشيري عن القاضي أبي جعفر بن السمناني .

                                                      واضطرب الناقلون عن الأشعرية فمنهم من نقل عنه أنه واقع ، وهو ما نقله في الإرشاد ، وأنه احتج للوقوع الشرعي بأن الله تعالى أمر أبا جهل [ ص: 115 ] أن يصدقه ، ويؤمن به في جميع ما يخبر عنه ، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن ، فقد أمره بأن يصدقه بأنه لا يصدقه ، وذلك جمع بين النقيضين ا هـ .

                                                      وكذلك نقله الآمدي في " الإحكام " ومنهم من نقل الوقف وهو ما ذكره في " الشامل " ، ومنهم من نقل عنه أنه لم يقع .

                                                      قال إمام الحرمين وأتباعه كابن القشيري والغزالي وابن برهان : وهو غلط عليه بل التكاليف بأسرها عنده لغير الممكن لوجهين :

                                                      أحدهما : أن فعل العبد لا يقع عنده إلا بقدرة الله تعالى ، فالعبد إذن مخاطب بما ليس إليه إيقاعه . ثم قال : ولا معنى للتمويه بالكسب ، ولا يخفى أن التكليف بفعل الغير تكليف ما لا يطاق .

                                                      وثانيهما : أن الاستطاعة عنده مع الفعل والتكليف به يتوجه قبل وقوعه ، وهو إذ ذاك غير مستطيع ، ولا يخفى أن التكليف بالفعل حال عدم القدرة تكليف ما لا يطاق . ثم اعترض على هذا الوجه وقال : الأمر بالشيء نهي عن ضده ، وهو متلبس به حال الخطاب .

                                                      وأجاب بأنا لا نسلم بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، ولئن سلمناه لكن القدرة لم تقارن الفعل ، وإن قارنت الضد .

                                                      قال الصفي الهندي : وهما ضعيفان .

                                                      أما الأول : فلأن الكلام إنما هو على رأي الشيخ لا على رأيه ، وهو يرى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده .

                                                      وأما الثاني : فلأن فيه تسليما أن بعض التكاليف تكليف بالمحال لا كله [ ص: 116 ] وهو مقصود المسائل ونقيض مقصوده ، بل الجواب عنه أن ما هو متلبس به عند ورود الخطاب ليس ضدا له ، وهذا لأن ضده الوجودي المنهي عنه ، وهو يستلزم التلبس به تركه في الزمان الذي أمر بإيقاع الفعل فيه ، وهو في زمان ورود الخطاب لم يتلبس به ، لأن زمان الفعل هو الزمان الثاني إن كان الأمر للفور . سلمنا أن ذلك ضده المنهي عنه لكنه حاصل عند ورود الخطاب ، والأمر بترك الحاصل محال . اللهم إلا أن يقال : إنه مأمور بترك ما هو متلبس به في المستقبل ، وذلك إنما يكون بإقدامه على المأمور به ، وحينئذ يعود المحذور المذكور .

                                                      ثم قال : واعلم أن الوجه الثاني غير لازم على الشيخ ، لأن الاستطاعة وإن كانت مع الفعل لكن الأمر بالفعل ليس قبله عنده على ما أشعر به نقل الإمام فإن صح هذا من مذهبه كان التكليف بما لا يطاق غير لازم عليه من هذا الوجه ، وقال غيره : تكليفه قبل وقوع الفعل لا يدل على وقوع تكليف ما لا يطاق ، لأن تلك الحالة تمكن من إيجاد الفعل ، والاستدلال على فساد سبقها الفعل ، أنها عرض ، فلو بقيت لزم بقاء الأعراض ، وهو ممنوع . ثم الشرع يدل على سبق استطاعة الفعل بأنا لا نحكم بها قبل الشروع في الفعل كما في الصلاة والحج وغيرهما .

                                                      وقال المازري : لم يغلط القوم في نقل مذهب الرجل ، لأنهم أرادوا بقولهم : إن الأشعري أجاز تكليف ما لا يطاق أي في الحال لا في الاستقبال وما يكون إيقاعه من قبيل المحال ، ولو قيد إطلاقه بهذا لم يتعقب عليهم نقلهم .

                                                      واعلم أن أخذ مذهب الأشعري من ذلك ليس بلازم ، لأن لازم المذهب ليس بمذهب على الصحيح ، وكلام الأشعري مصرح بوقوع الممتنع [ ص: 117 ] لغيره والاضطراب في النقل عنه إنما هو في الممتنع لذاته .

                                                      وقد صرح الشيخ في كتاب " الإيجاز " بأن تكليف العاجز الذي لا يقدر على شيء أصلا ، وتكليف المحال الذي لا يقدر عليه المكلف صحيح وجائز . ثم قال : وقد وجد تكليف الله العباد بما هو محال لا يصح وجوده خلافا لبعض أصحابنا ، ثم استدل بقضية أبي لهب وبإجماع الأمة على أن الكافر مكلف بالإيمان . واحتج غيره بالوقوع بقوله تعالى { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } مع الإجماع على أن العدل بينهن واجب . ووجه الدليل أن الله تعالى نفى القدرة عن الاستطاعة ، ومقتضى هذا الخبر الصادق أنه غير قادر على ذلك مع تكليفه بما لا قدرة له عليه ، نقله الإمام في تفسيره وقصارى ما تمسك به المجوزون ظواهر لا تفضي إلى القطع وليس الامتناع فيها من حيث العقل بل من حيث العلم .

                                                      وقد ذهب قوم منهم الغزالي في " المنخول " إلى أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه لا يسمى مستحيلا . لأنه في ذاته جائز الوقوف .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية