الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        28579 - وفسر ذلك من مذهبه ، فقال في " موطئه " : وذلك أن يقول الرجل للرجل يكون له الطعام المصبر الذي لا يعلم كيله من الحنطة أو التمر أو ما أشبه ذلك من الأطعمة أو يكون للرجل السلعة من الحنطة أو النوى أو القضب أو العصفر أو الكرسف أو الكتان أو القز أو ما أشبه ذلك من السلع . لا يعلم كيل شيء من ذلك ولا وزنه ولا عدده ، فيقول الرجل لرب تلك السلعة : كل سلعته هذه . أو مر من يكيلها ، أو زن من ذلك ما يوزن ، أو عد من ذلك ما كان يعد . فما نقص عن كيل كذا وكذا صاعا ، لتسمية يسميها ، أو وزن كذا وكذا رطلا ، أو عدد كذا وكذا ، فما نقص من ذلك فعلي غرمه لك ، حتى أوفيك تلك التسمية ، فما زاد على تلك التسمية فهو لي ، أضمن ما نقص من ذلك على أن يكون لي ما زاد ، فليس ذلك بيعا ، ولكنه المخاطرة والغرر ، والقمار يدخل هذا ; لأنه لم يشتر منه شيئا بشيء أخرجه ، ولكنه ضمن له ما سمى من ذلك الكيل أو الوزن أو العدد ، على أن يكون له ما زاد على ذلك ; فإن نقصت تلك السلعة عن تلك التسمية ، أخذ من مال صاحبه ما نقص بغير ثمن ولا هبة طيبة بها نفسه ، فهذا يشبه القمار ، وما كان مثل هذا من الأشياء فذلك يدخله .

                                                                                                                        [ ص: 161 ]

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        [ ص: 161 ] 28580 - وذكر في هذا الباب إلى آخره ما في معنى ما ذكرنا عنه .

                                                                                                                        28581 - قيل : لا يخرج عن شيء مما وصفنا من أصله ، فلم أر وجها لذكره ; لأنه مسطور في " الموطأ " عند جميع رواته .

                                                                                                                        28582 - ويشهد بقول مالك في ذلك ما تعرفه العرب في لغتها ; لأن المزابنة مأخوذ لفظها من الزبن ، وهو المقامرة ، والدفع ، والمغالبة وفي معنى القمار ، والزيادة ، والنقصان حتى لقد قال بعض أهل اللغة : إن القمر مشتق من القمار لزيادته ، ونقصانه .

                                                                                                                        [ ص: 162 ] 28583 - فالمزابنة والقمار ، والمخاطرة شيء متداخل المعنى متقارب .

                                                                                                                        28584 - تقول العرب : حرب زبون ، أي ذات دفع وقمار ، ومغالبة .

                                                                                                                        28585 - قال أبو الغول الطهوي :

                                                                                                                        فوارس لا يملكون المنايا إذا دارت رحى الحرب الزبون

                                                                                                                        28586 - وقال معمر بن لقيط الإيادي :

                                                                                                                        عبل الذراع أبيازا مزابنة في الحرب يختتل الرئال والسقيا

                                                                                                                        28587 - ومن هذا المعنى قول سعيد بن المسيب : كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين ، فأخبر سعيد أن ذلك ميسر .

                                                                                                                        28588 - والميسر القمار .

                                                                                                                        28589 - وأما الشافعي - رحمه الله - فقال : جماع المزابنة أن ينظر كل ما عقد بيعه مما الفضل في بعضه على بعض يدا بيد ربا ، فلا يجوز منه شيء يعرف كيله ، أو وزنه بشيء جزافا ، ولا جزافا بجزاف من صنفه ، فإما أن يقول لك : أضمن لك صبرتك هذه بعشرين صاعا ، فما زاد فلي ، وما نقص فعلي تمامها ، فهذا من القمار ، والمخاطرة ، وليس من المزابنة .

                                                                                                                        [ ص: 163 ] 28590 - ومن حجته أن أبا سعيد الخدري روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع المزابنة ، وقال : المزابنة : اشتراء التمر بالتمر في رءوس النخل ، ففسرها ابن عمر : بيع التمر بالتمر كيلا . وبيع الكرم بالزبيب كيلا .

                                                                                                                        28591 - وروى ابن جريج ، قال : أخبرني موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة .

                                                                                                                        28592 - قال أبو عمر : والمزابنة أن يبيع الرجل ثمر حائطه بتمر كيلا ، إن كانت نخلا ، أو بزبيب إن كانت كرما ، أو حنطة إن كانت زرعا .

                                                                                                                        28593 - وروى ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن جابر ، قال : المزابنة أن يبيع الثمر في رءوس النخل بمائة فرق تمرا .

                                                                                                                        28594 - فهؤلاء الثلاثة من الصحابة - رضوان الله عليهم - قد فسروا المزابنة بما تراه ، ولا مخالف لهم علمته ، والله أعلم .

                                                                                                                        28595 - وهذا كله أيضا عند أبي حنيفة وأصحابه مزابنة ; لأنه معلوم بمجهول ، أو مجهول بمعلوم ، لا يؤمن فيه التفاضل .

                                                                                                                        28596 - ولو كان مثلا بمثل جاز عند أبي حنيفة ، ولم يجز عند أبي يوسف ، ومحمد ، على ما قدمنا عنهم في بيع الرطب بالتمر .

                                                                                                                        [ ص: 164 ] 28597 - ومذهب أحمد بن حنبل في هذا الباب نحو مذهب الشافعي ، قال : لا يجوز بيع شيء من الرطب بيابس من جنسه إلا في العرايا ، وبالله التوفيق ، وهو حسبي ونعم الوكيل .




                                                                                                                        الخدمات العلمية