الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6 [ ص: 352 ] 6 - باب

                                                                                                                                                                                                                              6 - حدثنا عبدان قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا يونس، عن الزهري، ( ح) وحدثنا بشر بن محمد قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا يونس ومعمر، عن الزهري، نحوه قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة. [1902 - 2220 - 3554 - 4997 - مسلم 2308 - فتح: 1 \ 30]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الحديث السادس:

                                                                                                                                                                                                                              قال البخاري رحمه الله:

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا عبدان، أبنا عبد الله، أنبا يونس، عن الزهري، وحدثنا بشر بن محمد أنبا عبد الله، أنا يونس ومعمر نحوه، عن الزهري، أنبا عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة.

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه البخاري في خمسة مواضع: أخرجه هنا كما ترى، وفي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن عبدان أيضا، عن ابن المبارك، عن يونس، وفي الصوم، عن موسى، عن إبراهيم، وفي فضائل [ ص: 353 ] القرآن، عن يحيى بن قزعة، عن إبراهيم، وفي بدء الخلق، عن ابن مقاتل، عن عبد الله، عن يونس، عن الزهري، وأخرجه مسلم في فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن أربعة، عن منصور بن أبي مزاحم، وأبي عمران محمد بن جعفر، عن إبراهيم، وعن أبي غريب، عن ابن المبارك، عن يونس، وعن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر ثلاثتهم، عن الزهري به.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثاني: في التعريف بحال رواته:

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف منهم ابن عباس والزهري ومعمر ويونس. وأما عبيد الله بن عبد الله فهو الإمام أبو عبد الله عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بن غافل -بالغين المعجمة والفاء- بن حبيب بن شمخ بن فار -بالفاء وتخفيف الراء- بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل -بكسر الهاء- بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر الهذلي المدني الإمام الجليل التابعي، أحد الفقهاء السبعة كما أسلفناه في ترجمة عروة، وكاهل قبائل منها هذه، ومنها: كاهل بن أسد بن خزيمة بن مدركة، منهم الأعمش، والكاهل في اللغة: الحارك بين الكتفين.

                                                                                                                                                                                                                              سمع خلقا من الصحابة، منهم: ابن عباس، وابن عمر، وأبو هريرة، وعنه جمع من التابعين، وهو معلم عمر بن عبد العزيز، وكان قد ذهب بصره. روي عنه أنه قال: ما سمعت حديثا قط فأشاء أن أعيه إلا وعيته.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 354 ] وقال الزهري: ما جالست عالما إلا رأيت أني أتيت على ما عنده ما خلا عبيد الله بن عبد الله، فإني لم آته إلا وجدت عنده علما طريفا، وقال العجلي: رجل صالح جامع للعلم تابعي ثقة، وقال أبو زرعة: ثقة مأمون.

                                                                                                                                                                                                                              مات قبل علي بن الحسين سنة أربع أو خمس أو ثمان أو تسع وتسعين.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              روى البيهقي بإسناده، عن عبد الله والد عبيد الله هذا، قال: أذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذني وأنا خماسي أو سداسي فأجلسني في حجره، ومسح رأسي، ودعا لي ولذريتي بالبركة. وفي هذا منقبة لعبد الله وذريته، وفيه أيضا فائدة لغوية، وهي صحة إطلاق لفظ سداسي في الآدمي كما في خماسي، وقد منع ذلك بعضهم.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراوي عنه فهو الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي، مولاهم المروزي شيخ الإسلام، ذو الفنون، الحجة، الثبت.

                                                                                                                                                                                                                              روى عن سليمان التيمي، وعاصم الأحول، وحميد، وعنه ابن مهدي، وابن معين، وابن عرفة، أبوه تركي مولى (تاجر) من همذان من بني [ ص: 355 ] حنظلة وأمه خوارزمية، ولد سنة ثماني عشرة ومائة، ومات في رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة، وقبره بهيت، مدينة على شاطئ الفرات، سميت بذلك; لأنها في هوة؛ أي: منخفض وقبره يزار، قال الخطيب الحافظ: حدث عنه معمر بن راشد والحسين بن داود، وبين وفاتيهما مائة واثنان وثلاثون سنة، وقيل: مائة وثلاثون (سنة) وقيل: مائة وتسع وعشرون. ولعمار بن (الحسن) يمدح عبد الله بن المبارك:


                                                                                                                                                                                                                              إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها إذا ذكر الأحبار (من) كل بلدة
                                                                                                                                                                                                                              فهم أنجم فيها وأنت هلالها

                                                                                                                                                                                                                              وكان كثيرا ما يتمثل:


                                                                                                                                                                                                                              وإذا صاحبت فاصحب صاحبا ذا حياء وعفاف وكرم
                                                                                                                                                                                                                              قوله للشيء لا إن قلت لا وإذا قلت: نعم قال: نعم

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              عبد الله بن المبارك هذا من أفراد الكتب الستة، ليس فيها من يسمى بهذا الاسم غيره، نعم في الرواة خمسة غيره، ذكرهم الخطيب في "المتفق والمفترق" أحدهم: بغدادي حدث عن همام، ثانيهم: خراساني وليس بالمعروف، ثالثهم شيخ روى عنه الأثرم، رابعهم:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 356 ] بزار روى عنه سهل البخاري، وخامسهم: جوهري، روى عن أبي الوليد الطيالسي.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراويان عن ابن المبارك فأحدهما: عبدان وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد ميمون، وقيل: أيمن العتكي المروزي، وعبدان لقب له وهو مولى المهلب بن أبي صفرة، سمع مالكا وحماد بن زيد وغيرهما من الأعلام، وعنه الذهلي والبخاري وغيرهما، وروى مسلم وأبو داود والنسائي عن رجل عنه، وأخرج له الترمذي أيضا. مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين، أو عشرين ومائتين عن ست وسبعين سنة.

                                                                                                                                                                                                                              قال أحمد بن عبدة (الآملي) : تصدق عبدان بن عثمان في حياته بألف ألف درهم، وكتب كتب عبد الله بن المبارك بقلم واحد، وقال أحمد: ما بقي الرحلة إلا إلى عبدان خراسان. وقال أحمد السالف عنه: ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي، فإن تم وإلا استعنت بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت بالسلطان.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              عبدان هذا له أخ اسمه عبد العزيز بن عثمان المعروف بشاذان، وعبدان أيضا هو ابن بنت عبد العزيز بن أبي رواد، وكلهم موالي المهلب كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 357 ] فائدة ثانية:

                                                                                                                                                                                                                              عبدان لقب لجماعة أكبرهم هذا، قال ابن طاهر: إنما قيل له ذلك; لأن كنيته أبو عبد الرحمن واسمه عبد الله، فاجتمع في اسمه وكنيته العبدان، وهذا لا يصح بل ذلك من تغيير العامة للأسامي وكسرهم لها في زمن صغر المسمى أو نحو ذلك، كما قالوا في علي: (عليان)، وفي أحمد بن يوسف السلمي وغيره: حمدان، وفي وهب بن بقية الواسطي: وهبان.

                                                                                                                                                                                                                              الراوي الثاني عن ابن المبارك: بشر بن محمد، أبو محمد المروزي السختياني، روى عنه البخاري منفردا به عن باقي الكتب الستة هنا وفي التوحيد، وفي الصلاة وغيرها. ذكره ابن حبان في "ثقاته"، وقال: كان مرجئا. مات سنة أربع وعشرين ومائتين، وأهمل المزي وفاته، [ ص: 358 ] وذكر ابن أبي حاتم بشر بن محمد الكندي، روى عن ابن أبي رزمة، وعنه علي بن خشرم، وجعله غير السختياني هذا ويحتمل أن يكونا واحدا.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الإسناد اجتمع فيه عدة مراوزة: ابن المبارك وراوياه كما علمته.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (وحدثنا بشر بن محمد). هذه واو التحويل من إسناد إلى آخر، ويعبر عنها غالبا بصورة ح مهملة مفردة ولها ثلاث فوائد:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: الانتقال من إسناد إلى آخر.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: رفع توهم أن إسناد هذا الحديث سقط.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: عدم تركيب الإسناد الثاني على الأول.

                                                                                                                                                                                                                              وكتب جماعة من الحفاظ موضعها (صح)، وقيل: إنها رمز إلى قولنا: الحديث، وإن أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها: الحديث، والمختار (أن يقول) : ح ويمر كما سلف في القواعد أول الكتاب.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ومعمر نحوه) أي: نحو حديث يونس.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 359 ] الوجه الرابع: في ضبط ألفاظه ومعانيه:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (وكان أجود) رفع الدال من أجود أصح وأشهر، أي: كان أجود أكوانه في رمضان -أي: أحسن أيامه فيها- (فهو) مبتدأ مضاف إلى المصدر، وخبره رمضان، والنصب على أنه خبر كان وفيه بعد; لأنه يلزم منه أن يكون خبرها هو اسمها ولا يصح إلا بتأويل بعيد.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وكان أجود ما يكون) هو تكرار يسمى عند أهل البيان التوشيح، والجود: كثرة الإعطاء. وقوله: (فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بفتح اللام وقوله: (من الريح المرسلة) يعني: إسراعا وعموما، وقيل: عطاؤه عام كالريح. وقوله: (في كل ليلة) وكذا هو لبعض رواة مسلم، وهو المحفوظ، ووقع في مسلم: (في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ) وهو بمعنى الأول، لأن قوله: (حتى ينسلخ) بمعنى كل ليلة.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الخامس: في فوائده:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: فيه كما قال القاضي: تجديد الإيمان واليقين في قلبه بملاقاة الملك، وزيادة ترقيه في المقامات بمدارسته، وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - امتثال لقوله تعالى في تقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول التي كان أمر الله بها عباده، (فامتثله) - صلى الله عليه وسلم - بين يدي مناجاة الملك، وإن كان الله قد نسخه عن أمته. فكان - صلى الله عليه وسلم - يلتزم أشياء في طاعة ربه كالوصال، وخص بذلك رمضان لوجوه:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 360 ] أحدها: أنه شهر فاضل وثواب الصدقة فيه مضاعف، وكذلك العبادات، قال الزهري: تسبيحة في رمضان خير من سبعين في غيره.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: أنه شهر الصوم، فإعطاء الناس والإحسان إليهم إعانة لهم على (الفطر) والسحور.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: أن الإنعام يكثر فيه، فقد جاء في الحديث أنه يزاد فيه في رزق المؤمن، وأنه يعتق فيه كل يوم ألف ألف عتيق من النار، فأحب الشارع أن يوافق ربه في الكرم.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: أن كثرة الجود كالشكر لترداد جبريل إليه في كل ليلة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 361 ] خامسها: أنه لما كان يدارسه القرآن زادت معاينته الآخرة فأخرج ما في يده (من) الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: استحباب مدارسة القرآن وكذا غيره من العلوم الشرعية، وحكمة المدارسة أن الله تعالى ضمن لنبيه أن لا ينساه فأنجزه بها، وخص بذلك رمضان; لأن الله تعالى أنزل القرآن فيه إلى سماء الدنيا جملة من اللوح المحفوظ ثم نزل بعد ذلك نجوما على حسب الأسباب في عشرين سنة، يروى أن الله تعالى أنزله في ليلة (أربعة) وعشرين منه، وقال الحسن: ذكر لنا أنه كان بين أوله وآخره ثماني عشرة سنة نزل عليه بمكة ثماني سنين قبل أن يهاجر، وبالمدينة عشر سنين، وقال الشعبي: فرق الله تنزيله، بين أوله وآخره عشرون أو(نحو) من عشرين سنة.

                                                                                                                                                                                                                              ويقال: إن الذي نزل بالمدينة ثمان وعشرون سورة، وسائرها بمكة وقد أسلفنا ذلك في حديث الوحي عن ابن عباس وابن الزبير، ويقال: إن [ ص: 362 ] في ليلة أربع وعشرين من رمضان نزلت صحف إبراهيم والتوراة والإنجيل. وقيل: نزلت صحف إبراهيم أول ليلة منه، والتوراة لست والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: مجالسة الصالحين فإنه ينتفع بهم.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: استحباب إكثار قراءة القرآن في رمضان فإنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك للتأسي.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة: الحث على الجود والإفضال في كل الأوقات والزيادة منه في شهر رمضان، ومواطن الخير، وعند الاجتماع بالصالحين، وعقب فراقهم; ليتأثر بلقائهم.

                                                                                                                                                                                                                              السادسة: زيارة الصالحين وأهل الفضل ومجالستهم كما سلف وتكرير زيارتهم وتواصلها إذا كان المزور لا يكره ذلك ولا يتعطل به عن مهم هو عنده أفضل من مجالسة زائره، فإن كان بخلاف ذلك استحب تقليلها.

                                                                                                                                                                                                                              السابعة: أنه لا بأس بقول: رمضان من غير ذكر شهر، وهذا هو المذهب الصحيح المختار، وسيأتي في كتاب الصيام إن شاء الله بيان الاختلاف فيه حيث ذكره البخاري، وقد كثرت الأحاديث الصحيحة بإطلاق رمضان.

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة: أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح وسائر الأذكار، لأنه تكرر اجتماعهما عليه دون الذكر، لا يقال: المقصود تجويد الحفظ، فإنه كان حاصلا، والزيادة فيه تحصل ببعض هذه المجالس.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية