الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              13 [ 10 ] وعن أنس بن مالك ، قال : نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل ، فيسأله ونحن نسمع ، فجاء رجل من أهل البادية ، فقال : يا محمد ، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك . قال : صدق . قال : فمن خلق السماء ؟ قال : الله . قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : الله . قال : فمن نصب هذه الجبال ، وجعل فيها ما جعل ؟ قال : الله . قال : فبالذي خلق السماء ، وخلق الأرض ، ونصب هذه الجبال ، آلله أرسلك ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا . قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا ؟ قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا . قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا . قال : صدق ، قال : ثم ولى ، قال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ، ولا أنقص منهن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن صدق ليدخلن الجنة .

                                                                                              وفي رواية : كنا نهينا في القرآن أن نسأل . . . وذكره .

                                                                                              رواه أحمد ( 3 \ 193 ) ، والبخاري ( 63 ) ، ومسلم ( 12 ) ، وأبو داود ( 486 ) ، والترمذي ( 614 ) ، والنسائي ( 121 - 124 ).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و ( قوله : " نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم - في القرآن - عن شيء " ) يعني بذلك قوله تعالى : لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] وقد تقدم سبب ذلك ، وسيأتي تكميله .

                                                                                              [ ص: 162 ] و ( قوله : " فجاء رجل " ) هذا الرجل هو ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر ، قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع ; قاله أبو عبيد ، وقيل : سنة سبع ، وقال محمد بن حبيب : سنة خمس ، وهو أبعدها ; لأن فرض الحج لم يكن نزل إذ ذاك ، والله أعلم ، وسيأتي ذلك في الحج إن شاء الله تعالى .

                                                                                              وقد خرج البخاري هذا الحديث ، وقال فيه : عن أنس - رضي الله عنه - : بينما نحن جلوس في المسجد ، دخل رجل على جمل ، فأناخه في المسجد ، ثم عقله ، ثم قال : أيكم محمد بن عبد الله ؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيهم ، فقلنا : هذا الرجل الأبيض المتكئ ، فقال الرجل : ابن عبد المطلب ؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " قد أجبتك " ، فقال الرجل : إني سائلك فمشدد عليك في المسألة ، فلا تجد علي في نفسك ، فقال : " سل عما بدا لك " فقال : أسألك بربك ورب من قبلك ، آلله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ فقال : " اللهم نعم " . وذكر نحو حديث مسلم .

                                                                                              وقد فهم البخاري من هذا الحديث : أن هذا الرجل قد كان أسلم على يدي " رسول " رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جاءهم ، وصح إيمانه ، وحفظ شرائعه ، ثم جاء يعرضها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ; ألا ترى البخاري كيف بوب على هذا " باب : القراءة والعرض على المحدث " ؟ وكأن البخاري أخذ هذا المعنى من قول الرجل في آخر الحديث : آمنت [ ص: 163 ] بما جئت به ، وأنا رسول من ورائي من قومي ، وفيه نظر .

                                                                                              وأما مساق حديث مسلم : فظاهره أن الرجل لم يشرح صدره للإسلام بعد ، وأنه بقيت في قلبه منازعات وشكوك ، فجاء مجيء الباحث المستثبت ; ألا تراه يقول : يا محمد ، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك ; فإن الزعم قول لا يوثق به .

                                                                                              قاله ابن السكيت وغيره ، غير أن هذا الرجل كان كامل العقل ، وقد كان نظر بعقله في المخلوقات ، فدله ذلك على أن لها خالقا خلقها ; ألا ترى أنه استفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خالق المخلوقات استفهام تقرير للقاعدة التي لا يصح العلم بالرسول إلا بعد حصولها ، وهي التي تفيد العلم بالمرسل ، ثم إنه لما وافقه على ما شهد به العقل ، وأن الله تعالى هو المنفرد بخلق هذه المخلوقات : أقسم عليه وسأله به : هل أرسله ؟

                                                                                              ثم إن الرجل استمر على أسئلته ، إلى أن حصل على طلبته ، فانشرح صدره للإسلام ، وزاحت عنه الشكوك والأوهام ، وذلك ببركة مشاهدته أنوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; فلقد كان كثير من العقلاء يحصل لهم العلم بصحة رسالته ، بنفس رؤيته ومشاهدته قبل النظر في معجزته ; كما قال أبو ذر : فلما رأيته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، حتى قال بعضهم :


                                                                                              لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر

                                                                                              والحاصل : من حال هذا السائل أنه حصل له العلم بصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبصحة رسالته لمجموع قرائن لا تتعين إحداها ولا تنحصر أعدادها .

                                                                                              [ ص: 164 ] ويستفاد من هذا الحديث : أن الشرع إنما طلب من المكلفين التصديق الجزم بالحق ، كيف حصل ، وبأي وجه ثبت ، ولم يقصرهم في ذلك على النظر في دلالة معينة ، ولا معجزة ولا غيرها ، بل كل من حصل له اليقين بصدقه : بمشاهدة وجهه ، أو بالنظر في معجزته ، أو بتحليفه ، أو بقرينة لاحت له كان من المؤمنين ، وكان من جملة عباد الله المخلصين ; لكن دلالات المعجزات هي الخاصة بالأنبياء ، والطرق العامة للعقلاء .

                                                                                              وقد روى ابن عباس - رضي الله عنهما - حديث ضمام هذا بأكمل من هذا ، وقال فيه ما يدل على أن ضماما إنما أسلم بعد أن أجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أسئلته المتقدمة ، فلما أن فرغ ، قال ضمام : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، وسأؤدي هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتني عنه ، ثم لا أزيد ولا أنقص ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة " ثم قدم على أهله ، فعرض عليهم الإسلام ، فما أمسى ذلك اليوم في حاضره من رجل ولا امرأة إلا مسلما ، قال ابن عباس : فما سمعنا بوافد قط كان أفضل من ضمام .

                                                                                              ونادى هذا الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - يا محمد ، ويا ابن عبد المطلب ، ولم يناده بالنبوة ولا بالرسالة ، إما لأنه لم يؤمن بعد ; كما قلناه ، وإما لأنه باق على صفة أهل البادية والأعراب ; إذ لم يتأدب بعد بشيء من آداب الشرع ، ولا علم ما يجب عليه من تعزير النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره ; فإن الله تعالى قد نهى أن ينادى النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد ، حين [ ص: 165 ] قال تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [ النور : 63 ] ، وأولى ما يقال : إن ضماما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع ; كما قاله أبو عبيدة وغيره من أهل التواريخ ، ولأنها كانت سنة الوفود ; وذلك أن الله تعالى لما فتح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ، وهزم جمع هوازن ، وأسلمت قريش كلها - : دوخ الله العرب ، ونصر نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك سنة ثمان من الهجرة ; فدخل الناس في دين الله أفواجا ، وقدم رؤساء العرب وفودا على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع ، فسميت : سنة الوفود لذلك . وفي هذا الحديث أبواب من الفقه لا تخفى يطول تتبعها .




                                                                                              الخدمات العلمية