الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      ( فصل ) وأما ما تعلق بالمحظورات فهو أن يمنع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك } .

                                      فيقدم الإنكار ولا يجعل بالتأديب قبل الإنكار .

                                      حكى إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى الرجال أن يطوفوا مع النساء فرأى رجلا يصلي مع النساء فضربه بالدرة فقال الرجل : والله إن كنت أحسنت لقد ظلمتني ، وإن كنت أسأت فما علمتني ، فقال عمر : أما شهدت عزمتي . فقال : ما شهدت لك عزمة فألقى إليه الدرة وقال له : اقتص فقال : لا أقتص اليوم ، قال فاعف عني . قال لا أعفو ، فافترقا على ذلك ، ثم لقيه من الغد [ ص: 311 ] فتغير لون عمر فقال له الرجل يا أمير المؤمنين كأني أرى ما كان مني قد أسرع فيك ؟ قال أجل ، قال فأشهد الله أني قد عفوت عنك .

                                      وإذا رأى وقفة رجل مع امرأة في طريق سابل لم تظهر منهما أمارات الريب لم يعترض عليهما بزجر ولا إنكار فما يجد الناس بدا من هذا .

                                      وإن كانت الوقفة في طريق خال فخلو المكان ريبة فينكرها ولا يعجل بالتأديب عليهما حذارا من أن تكون ذات محرم ، وليقل إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الريب ، وإن كانت أجنبية فخف الله تعالى من خلوة تؤديك إلى معصية الله تعالى ، وليكن زجره بحسب الأمارات .

                                      حكى أبو الأزهر أن ابن عائشة رأى رجلا يكلم امرأة في طريق فقال له إن كانت حرمتك إنه لقبيح بك أن تكلمها بين الناس ، وإن لم تكن حرمتك فهو أقبح ، ثم ولى عنه وجلس للناس يحدثهم فإذا برقعة قد ألقيت في حجره مكتوب فيها ( من الكامل ) :

                                      إن التي أبصرتني سحرا أكلمها رسول     أدت إلي رسالة
                                      كادت لها نفسي تسيل     من فاتر الألحاظ
                                      يجذب خصره ردف ثقيل     متنكبا قوس الصبا
                                      يرمي وليس له رسيل     فلو أن أذنك بيننا
                                      حتى تسمع ما نقول     لرأيت ما استقبحت من
                                      أمري هو الحسن الجميل

                                      فقرأها ابن عائشة ووجد مكتوبا على رأسها أبو نواس ، فقال ابن عائشة : ما لي وللتعريض لأبي نواس .

                                      وهذا القدر من إنكار ابن عائشة كاف لمثله ، ولا يكون لمن ندب للإنكار من ولاة الحسبة كافيا ، وليس فيما قاله أبو نواس تصريح بفجور لاحتمال أن يكون إشارة إلى ذات محرم وإن كانت شواهد حاله وفحوى كلامه ينطقان بفجوره وريبته فيكون من مثل أبي نواس منكرا وإن جاز أن لا يكون من غيره منكرا .

                                      فإذا رأى المحتسب في هذا الحال ما ينكره تأتى وتفحص [ ص: 312 ] وراعى شواهد الحال ولم يعجل بالإنكار قبل الاستخبار ، كالذي رواه ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة قال : بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف بالبيت إذ رأى رجلا يطوف وعلى عاتقه امرأة مثل المهاة يعني حسنا وجمالا وهو يقول ( من السريع ) :

                                      قدت لهذي جملا ذلولا     موطأ أتبع السهولا
                                      أعدلها بالكف أن تميلا     أحذر أن تسقط أو تزولا
                                      أرجو بذاك نائلا جزيلا

                                      فقال له عمر رضي الله عنه يا عبد الله من هذه التي وهبت لها حجك ؟ فقال امرأتي يا أمير المؤمنين ، وإنها حمقاء مرغامة ، أكول قمامة ، لا يبقى لها خامة . فقال له ما لك لا تطلقها ؟ قال إنها حسناء لا تفرك ، وأم صبيان لا تترك . قال فشأنك بها .

                                      قال أبو زيد : المرغام المختلط ، فلم يقدم عليه بالإنكار حتى استخبره فلما انتفت عنه الريبة لان له .

                                      وإذا جاهر رجل بإظهار الخمر ، فإن كان مسلما أراقها عليه وأدبه ، وإن كان ذميا أدبه على إظهارها .

                                      واختلف الفقهاء في إراقتها عليه ، فذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تراق عليه ، لأنها عنده من أموالهم المضمونة في حقوقهم .

                                      ومذهب الشافعي أنها تراق عليهم لأنها لا تضمن عنده في حق مسلم ولا كافر .

                                      وأما المجاهرة بإظهار النبيذ ، فعند أبي حنيفة أنه من الأموال التي يقر المسلمون عليها فيمتنع من إراقته ومن التأديب على إظهاره .

                                      وعند الشافعي أنه ليس بمال كالخمر ، وليس في إراقته غرم ، فيعتبر والي الحسبة بشواهد الحال فيه فينتهي فيه عن المجاهرة ويزجر عليها إن كان لمعاقرة ولا يريقه عليه إلا أن يأمره [ ص: 313 ] بإراقته حاكم من أهل الاجتهاد ، لئلا يتوجه عليه غرم إن حوكم فيه .

                                      وأما السكران إذا تظاهر بسكره وسخف بهجره أدبه على السكر والهجر تعزيرا لا حدا لقلة مراقبته وظهور سخفه .

                                      وأما المجاهرة بإظهار الملاهي المحرمة فعلى المحتسب أن يفصلها حتى تصير خشبا لتزول عن حكم الملاهي ، ويؤدب على المجاهرة بها ، ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي .

                                      وأما اللعب فليس يقصد بها المعاصي ، وإنما يقصد بها إلف البنات لتربية الأولاد .

                                      وفيها وجه من وجوه التدبير تقارنه معصية بتصوير ذوات الأزواج ومشابهة الأصنام ، فللتمكين منها وجه وللمنع منها وجه ، وبحسب ما تقتضيه شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره .

                                      { قد دخل النبي عليه الصلاة والسلام على عائشة رضي الله عنها وهي تلعب بالبنات فأقرها ولم ينكر عليها } .

                                      وحكي أن أبا سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي تقلد حسبة بغداد في أيام المقتدر فأزال سوق الدادي ومنع منها ، وقال : لا يصلح إلا للنبيذ المحرم وأقر سوق اللعب ولم يمنع منها وقال : قد كانت عائشة رضي الله عنها تلعب بالبنات بمشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليها ; وليس ما ذكره من اللعب بالبعيد من الاجتهاد .

                                      وأما سوق الدادي فالأغلب من حاله أنه لا يستعمل إلا في النبيذ ، وقد يجوز أن يستعمل نادرا في الدواء وهو بعيد ، فبيعه عند من يرى إباحة النبيذ جائز لا يكره ، وعند من يرى تحريمه جائز لجواز استعماله في غيره ، ومكروه اعتبارا بالأغلب من حاله ، وليس منع أبي سعيد منه لتحريم بيعه عنده .

                                      وإنما من المظاهرة بإفراد سوقه والمجاهرة ببيعه إلحاقا له بإباحة ما اتفق الفقهاء على إباحة مقصده ليقع لعوام الناس الفرق بينه وبين غيره من المباحات ، وليس يمتنع إنكار [ ص: 314 ] المجاهرة ببعض المباحات كما ينكر المجاهرة بالمباح من مباشرة الأزواج والإماء .

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية