الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأما صلاة العصر ، فقد دلت نصوص السنة على أن لها وقتا اختياريا ، ووقتا ضروريا ، أما وقتها الاختياري فأوله عندما يكون ظل كل شيء مثله من غير اعتبار ظل الزوال ، ويدخل وقتها بانتهاء وقت الظهر المتقدم بيانه ، ففي حديث ابن عباس المتقدم : " فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث جابر المتقدم أيضا : " فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله " ، وهذا هو التحقيق في أول وقت العصر ، كما صرحت به الأحاديث المذكورة وغيرها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشافعي : أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله ، وزاد أدنى زيادة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه - : إن كان مراد الشافعي أن الزيادة لتحقيق بيان انتهاء الظل إلى المثل إذ لا يتيقن ذلك إلا بزيادة ما كما قال به بعض الشافعية فهو موافق لما عليه الجمهور لا مخالف له ، وإن كان مراده غير ذلك فهو مردود بالنصوص المصرحة بأن أول وقت العصر عندما يكون ظل الشيء مثله من غير حاجة إلى زيادة ، مع أن الظاهر إمكان تحقيق كون ظل الشيء مثله من غير احتياج إلى زيادة ما . وشذ أبو حنيفة رحمه الله من بين عامة العلماء فقال : يبقى وقت الظهر حتى يصير الظل مثلين ، فإذا زاد على ذلك يسيرا كان أول وقت العصر . [ ص: 284 ] ونقل النووي في " شرح المهذب " عن القاضي أبي الطيب أن ابن المنذر قال : لم يقل هذا أحد غير أبي حنيفة رحمه الله وحجته حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل ، فعملوا إلى صلاة العصر فعجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين . فقال أهل الكتاب : أي ربنا ، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا قيراطا ونحن أكثر عملا ؟ قال الله تعالى : ( هل ظلمتكم من أجركم من شيء ، قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء ) متفق عليه . قال : فهذا دليل على أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر ومن حين يصير ظل الشيء مثله إلى غروب الشمس هو ربع النهار ، وليس بأقل من وقت الظهر ، بل هو مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجيب عن هذا الاستدلال بأن المقصود من هذا الحديث ضرب المثل لا بيان تحديد أوقات الصلاة ، والمقصود من الأحاديث الدالة على انتهاء وقت الظهر عندما يصير ظل الشيء مثله هو تحديد أوقات الصلاة ، وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها مع أن الحديث ليس فيه تصريح بأن أحد الزمنين أكثر من الآخر وإنما فيه أن عملهم أكثر ، وكثرة العمل لا تستلزم كثرة الزمن لجواز أن يعمل بعض الناس عملا كثيرا في زمن قليل ، ويدل لهذا أن هذه الأمة وضعت عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عبد البر : خالف أبو حنيفة في قوله هذا الآثار والناس ، وخالفه أصحابه ، فإذا تحققت أن الحق كون أول وقت العصر عندما يكون ظل كل شيء مثله ، من غير اعتبار ظل الزوال فاعلم أن آخر وقت العصر جاء في بعض الأحاديث تحديده بأن يصير ظل كل شيء مثليه ، وجاء في بعضها تحديده بما قبل اصفرار الشمس ، وجاء في بعضها امتداده إلى غروب الشمس ، ففي حديث جابر وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل في بيانه لآخر وقت العصر في اليوم الثاني ، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه ، وفي حديث عبد الله بن عمر وعند مسلم وأحمد ، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ، وفي حديث أبي موسى عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي ، ثم أخر العصر فانصرف [ ص: 285 ] منها ، والقائل يقول : احمرت الشمس ، وروى الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربع نحوه من حديث بريدة الأسلمي ، وفي حديث عبد الله بن عمر ، وعند مسلم ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه : ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر في وجه الجمع بين هذه الروايات في تحديد آخر وقت العصر أن مصير ظل الشيء مثليه ، هو وقت تغيير الشمس من البياض والنقاء إلى الصفرة ، فيؤول معنى الروايتين إلى شيء واحد ، كما قاله بعض المالكية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن قدامة في " المغني " : أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية ، فقد صلاها في وقتها ، وفي هذا دليل على أن مراعاة المثلين عندهم استحباب ولعلهما متقاربان يوجد أحدهما قريبا من الآخر . اهـ . منه بلفظه . وهذا هو انتهاء وقتها الاختياري .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الروايات الدالة على امتداد وقتها إلى الغروب ، فهي في حق أهل الأعذار كحائض تطهر ، وكافر يسلم ، وصبي يبلغ ، ومجنون يفيق ، ونائم يستيقظ ، ومريض يبرأ ، ويدل لهذا الجمع ما رواه الإمام أحمد ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث أنس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله إلا قليلا " . ففي الحديث دليل على عدم جواز تأخير صلاة العصر إلى الاصفرار فما بعده بلا عذر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية