الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما بين ما يقوله أصحاب الأعراف لأهل النار ، أتبعه بذكر ما يقوله أهل النار لأهل الجنة . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة ، طمع أهل النار بفرج بعد اليأس . فقالوا : يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم ، فأمر الله الجنة فتزحزحت ، ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم ، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم ، وقد اسودت وجوههم وصاروا خلقا آخر ، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا : ( أفيضوا علينا من الماء ) وإنما طلبوا الماء خاصة لشدة ما في بواطنهم من الاحتراق واللهيب بسبب شدة حر جهنم . وقوله : ( أفيضوا ) كالدلالة على أن أهل الجنة أعلى مكانا من أهل النار .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : أسألوا مع الرجاء والجواز ، أو مع اليأس ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : ما حكيناه عن ابن عباس يدل على أنهم طلبوا الماء مع جواز الحصول . وقال القاضي : بل مع اليأس ؛ لأنهم قد عرفوا دوام عقابهم, وأنه لا يفتر عنهم ، ولكن الآيس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثل : الغريق يتعلق بالزبد ، وإن علم أنه لا يغيثه . وقوله : ( أو مما رزقكم الله ) قيل : إنه الثمار ، وقيل : إنه الطعام ، وهذا الكلام يدل على حصول العطش الشديد ، والجوع الشديد لهم ، عن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم ، فيستغيثون فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع . ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة ، ثم يذكرون الشراب فيستغيثون فيدفع إليهم الحميم والصديد بكلاليب [ ص: 77 ] الحديد فيقطع ما في بطونهم ، ويستغيثون إلى أهل الجنة ، كما في هذه الآية ، فيقول أهل الجنة : إن الله حرمهما على الكافرين ، ويقولون لمالك : ( ليقض علينا ربك ) [الزخرف : 77] فيجيبهم على ما قيل بعد ألف عام ، ويقولون : ( ربنا أخرجنا منها ) [المؤمنون : 107] فيجيبهم ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) [المؤمنون : 108] فعند ذلك ييأسون من كل خير ، ويأخذون في الزفير والشهيق .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه ذكر في صفة أهل الجنة أنهم يرون الله عز وجل كل جمعة ، ولمنزل كل واحد منهم ألف باب ، فإذا رأوا الله تعالى ، دخل من كل باب ملك معه الهدايا الشريفة وقال : إن نخل الجنة خشبها الزمرد ، وترابها الذهب الأحمر ، وسعفها حلل وكسوة لأهل الجنة ، وثمرها أمثال القلال أو الدلاء ، أشد بياضا من الفضة وألين من الزبد وأحلى من العسل ، لا عجم له .

                                                                                                                                                                                                                                            فهذا صفة أهل الجنة ، وصفة أهل النار ، ورأيت في بعض الكتب : أن قارئا قرأ قوله تعالى حكاية عن الكفار : ( أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ) في تذكرة الأستاذ أبي علي الدقاق ، فقال الأستاذ : هؤلاء كانت رغبتهم وشهوتهم في الدنيا في الشرب والأكل ، وفي الآخرة بقوا على هذه الحالة ، وذلك يدل على أن الرجل يموت على ما عاش عليه ، ويحشر على ما مات عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم بين تعالى أن هؤلاء الكفار لما طلبوا الماء والطعام من أهل الجنة قال أهل الجنة : ( إن الله حرمهما على الكافرين ) ولا شك أن ذلك يفيد الخيبة التامة ، ثم إنه تعالى وصف هؤلاء الكفار بأنهم اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أن الذي اعتقدوا فيه أنه دينهم ، تلاعبوا به ، وما كانوا فيه مجدين .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنهم اتخذوا اللهو واللعب دينا لأنفسهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد المستهزئين المقتسمين . ثم قال : ( وغرتهم الحياة الدنيا ) وهو مجاز لأن الحياة الدنيا لا تغر في الحقيقة ، بل المراد أنه حصل الغرور عند هذه الحياة الدنيا ؛ لأن الإنسان يطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال وقوة الجاه ، فلشدة رغبته في هذه الأشياء يصير محجوبا عن طلب الدين ، غرقا في طلب الدنيا ، ثم لما وصف الله تعالى أولئك الكفار بهذه الصفات قال : ( فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ) وفي تفسير هذا النسيان قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : أن النسيان هو الترك . والمعنى : نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا ، وهذا قول الحسن ومجاهد والسدي والأكثرين .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن معنى ننساهم كما نسوا ، أي نعاملهم معاملة من نسي ، نتركهم في النار كما فعلوا هم في الإعراض بآياتنا ، وبالجملة فسمى الله جزاء نسيانهم بالنسيان كما في قوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [الشورى : 40] والمراد من هذا النسيان أنه لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم ، ثم بين تعالى أن كل هذه التشديدات إنما كان لأنهم كانوا بآياتنا يجحدون . وفي الآية لطيفة عجيبة ؛ وذلك لأنه تعالى وصفهم بكونهم كانوا كافرين ثم بين من حالهم أنهم اتخذوا دينهم لهوا أولا ، ثم لعبا ثانيا ، ثم غرتهم الحياة الدنيا ثالثا ، ثم صار عاقبة هذه الأحوال والدرجات أنهم جحدوا بآيات الله ، وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة كما قال عليه الصلاة والسلام : " حب الدنيا رأس كل خطيئة " ، وقد يؤدي حب الدنيا إلى الكفر والضلال .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية